الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لا يعتريني الشك أنّ فنّ إدارة المخاطر ظُلِمَ في فَهْم أهميته، وما يمكن أن يقدّمه، بل تم تحجيمه -ويا للأسف- مِن قِبَل بعض المؤسسات على غير دراية بالفائدة العظيمة الموءودة. الآن وبعد المرور في سلسلة من الأزمات الاقتصادية بدأنا نرى بصيصًا من الأمل على تبنّي نهج إدارة المخاطر كما يجب. إن مصطلح إدارة المخاطر أصبح من المصطلحات الشائعة والذي أُولي اهتمامًا كبيرًا، لا سيما بعد الأزمة المالية العالمية الأخيرة وجائحة كورونا والآثار السلبية التي طالت جميع الاقتصادات. مع هذا فدائمًا ما يكون هناك سؤال ما ينفك أن يُطْرَح: هل إدارة المخاطر ضرورة أم ترف؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب أن نعي أولاً ما هو الخطر؟، الخطر ببساطة هو عدم اليقين، فنرى الكثير من المراجع تُعرّف الخطر بأنه حالة من عدم اليقين، أي بمعنى أن الخطر غير معلوم، ولو علمنا بحدوث الخطر في حينه لما سُمِّي خطرًا.
بسبب حالة عدم اليقين هذه، فقد يَعتبر الكثيرون أن إدارة المخاطر ترف، وذلك يعود إلى أنها غير ملموسة، وأن الخطر من الممكن ألا يقع. فمثلاً نحن نستخدم حزام الأمان عند قيادة المركبة، هل هذا بسبب أننا على يقين بأنه سيحدث لنا حادث -لا قدر الله-، أو لكي نحمي أنفسنا من الخطر في حالة وقوع المكروه؟ لو وُجِدَ هذا اليقين بأنفسنا لما قُدْنا السيارة في تلك اللحظة، لكننا نحن نستخدم الحزام بغرض إدارة المخاطر وتقليل الأضرار في حال وقوع الضرر.
إذًا نُعيد نفس السؤال السابق ونطبّقه على مثالنا هنا: هل استخدام حزام الأمان ضرورة أم ترف؟ على ما يبدو أنه ضرورة حتمية. في هذه المقالة نُحلِّق في رحلة سويًّا لننصِف ونفهم إدارة المخاطر بشكلها الأوسع، ونتعمق في المخاطر المؤسسية وماهيتها وأساليبها وتطبيقاتها، ونستجلب المفاهيم والتطبيقات الخاصة بإطار عمل إدارة المخاطر الذي يتبنّاه معهد المحاسبين الأمريكيين (AICPA) في إدارة المخاطر المؤسسية (Enterprise Risk Management).
لكن قبل ذلك لنعود بالزمن ونأخذ لمحة تاريخية عن إدارة المخاطر: كيف نشأت وتطورت؟ وماذا يعني الخطر وإدارته؟ قد يجادل الكثير بأن إدارة المخاطر ممارسة طبيعية بدأت بمطلع نشأتنا بسيدنا آدم وأُمنا حواء -عليهما السلام-، وعلى الرغم من الطبيعة البديهية لإدارة المخاطر إلا أنها لم تصبح جزءًا من ممارسة الأعمال إلا في خمسينيات القرن الماضي، وتحديدًا عام 1956م؛ حيث ظهر مفهوم إدارة المخاطر لأول مرة حينما ذكرت مقالة نُشِرَت في “Harvard Business Review” اقتراحًا بأن يكون هناك موظف في كل شركة مهمته التعامل مع المخاطر. لم يَحْظَ هذا الاقتراح بالترحيب على نطاق واسع؛ لأنه اعتُبِرَ نهجًا متشددًا للغاية ولا ضرورة تُرْجَى منه. في ذلك الوقت كانت عملية التعامل مع المخاطر تتم من خلال شراء بوليصة تأمين ضد المخاطر، وكانت الشركات الكبيرة فقط هي مَن تُوظّف لهذا الغرض تحت مسمى “مدير تأمين”. لكنَّ هذه الشركات بدأت باستيعاب أمر ما؛ وهو أن التأمين ليس هو الحل الوحيد للتعامل مع المخاطر التي تواجههم، وهذا ما دفَع البعض للتفكير في طرق أخرى لإدارة المخاطر، فمن غير المعقول أن تكون عملية إدارة المخاطر تتم فقط من خلال بوليصة تأمين؛ فهناك أمور كثيرة لا يمكن التأمين عليها، وهي عُرضة للخطر.
عزّز هذا الرأي ورقتين بحثيتين نُشِرَتا في الخمسينيات انتقدت بشدة منهجيات الإدارة في كليات إدارة الأعمال في أمريكا، وأنها عفا عليها الزمن. هذا النقد اللاذع لم يَرُقْ لبعض كليات الأعمال؛ مما دفعها لحراك فعلي للتغيير في المنهجيات المتَّبعة في علم الإدارة لمواكبة رغبات سوق العمل. هذه المنهجيات في الإدارة انعكست على تلك الشركات التي تتعامل مع التأمين لإدارة مخاطرها، ومع وجود رغبة سابقة لديهم في إيجاد حلول أخرى لإدارة المخاطر أدركوا أن هناك أكثر من طريقة فعَّالة لهذا الأمر غير التأمين. من هنا بدأ نهج إدارة المخاطر الجديد.
لكن لم يتم صياغة إطار عمل حقيقي لإدارة المخاطر حتى العام 1993م حين عُيِّن جيمس لام (James Lam) في إحدى كبرى الشركات الأمريكية من أجل تأسيس قسم جديد يشرف على المخاطر التي تواجه الشركة. بدأ جيمس عمله في الشركة بدون مسمى وظيفي محدّد، وعند سؤال رؤسائه عن ذلك أوصوه بأن يأتي بمسمى يتناسب مع مهامه الوظيفية التي كان من ضمنها إدارة المخاطر بشتى أنواعها (تشغيلية، سوقية، ائتمانية… إلخ)؛ حيث إن القسم الذي وُظِّف من أجل تأسيسه لم يكن له سابق وجود. هنا بدأ جيمس التفكير وقدم اقتراحًا بأن يكون المسمى الوظيفي المسند هو رئيس مخاطر تنفيذي (Chief Risk Officer). قُبِلَ المُسمَّى، ودخل جيمس التاريخ كأول رئيس مخاطر تنفيذي. مسيرة جيمس المهنية في إدارة المخاطر مليئة وثرية؛ حيث نشر جيمس كتابين في إدارة المخاطر المؤسسية، وأيضًا الكثير من المقالات في نفس المجال. لا أود الخوض كثيرًا في سيرته؛ حيث لا يتسع المجال هنا، ولكن لأن المقالة عن إدارة المخاطر وجب التطرق لمن أعتبره شخصيًّا عرّاب هذا المجال.
بعد سرد هذه اللمحة التاريخية لنشأة إدارة المخاطر والتحديات التي واجهتها إلى يومنا هذا، نجد حاليًا أن هناك أوجه كثيره لإدارة المخاطر منها إدارة المخاطر التكنولوجية، وإدارة المخاطر التشغيلية، وإدارة المخاطر المالية بجميع أوجهها الائتمانية والسوقية ومخاطر السيولة، وأيضا إدارة المخاطر المؤسسية. نبحر سويًا في بحر إدارة المخاطر اللجيّ، وخاصةً المؤسسية منها في جزء المقالة الثاني في قادم الأيام بإذن الله.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال