الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
ما هي قضايا نهاية الحياة؟ هي قضايا حادثة تعتري بعض عند أو قبيل وفاته تستدعي أحكاماً قد تثسهم في اعادة الحياة. وقد يُعبّر عنها بالحالات التي تصيب الإنسان في آخر حياته أو تتعلق بوفاته، مثل: الغيبوبة والحق في الموت والقتل الرحيم،الانتحار، تشريح الجثة،التبرع بالأعضاء وزراعتها، الخلايا الجذعية والجينات الوراثية. نستعرض تلك القضايا مع مناقشة الإشكالات القانونية والأخلاقية المتعلقة بها.
بدايةً، نقول قد أسهم حب البقاء وطول الأمل في تطوير الطب للوقاية من الأمراض وعلاجها. فالتقدم التكنولوجي الطبي قد أدّى إلى إطالة متوسط العمر. وبإزاء ذلك أحدث ضرراً في مد حياة أولئك الذين يعانون من الألم والمعاناة مع ما في ذلك من عبء مالي إلا أن ذلك – بحد ذاته – يؤكد قيمة الحياة. إذ لا يوجد حق أكثر قدسية يحترمها الدين ويحرسها القانون أكبر من حق الفرد في حياته وحماية شخصه وحريته دون أي تقييد أو تدخل من آخرين. وقد يفهم البعض أن الأخلاقيات الطبية تحتّم المحافظة على حياة المريض بأي ثمن في جميع الظروف. لكن ذلك ليس على إطلاقه، فالمريض كما له حق العلاج له حق رفضه. فمبدأ الموافقة المستنيرة (الإذن المتبصر) الذي يمنحه الحق في الخصوصية والسلامة الجسدية يمنحه أيضاً حق تقرير المصير، رغم ما قيل بإخلال ذلك بالاعتبار المؤسسي للمستشفيات والأطباء. ونتناول فيما يلي المسائل المشار إليها آنفاً على التوالي:
القضية الأولى: الغيبوبة والحق في الموت:
في قضية كوينلان حدثت في إحدى ولايات أمريكا الشمالية لامرأة اسمها كارين كوينلان – والقضية معرفة باسمها – ولأنها في غيبوبة؛ انتهى رأي الأطباء إلى أن حالتها مستمرة ولا يُمكن التنبؤ بإفاقتها، وأنه يمكن سحب أجهزة الإنعاش منها، وعلى والديها إذا ارتأوا ذلك مشاورة لجنة الأخلاقيات في المستشفى. وقد وافقت تلك اللجنة شريطة عدم المسؤولية المدنية والجنائية على أي شخص يُشارك في ذلك بما في ذلك المستشفى. وقد أيّدت المحكمة ذلك مفرّقة بين مسألة سحب أجهزة الإنعاش التي تدعم الحياة كما هو حاصل في قضية كارين وبين إلحاق ضرر قاتل بشخص آخر.
ورغم تأييد المحكمة إلا أن القانون يفرض على مؤسسات الرعاية الصحية شرح حق المريض في قبول العلاج أو رفضه بما في ذلك “الحق في الموت” وبيانه للمريض وأقاربه. وهو إجراء وقائي احتياطي فيما لو ساءت حالة المريض عقلياً أو بدنياً، إذ بدونها تأخذ موافقته أو موافقة أقاربه مساراً آخر. فالمريض يستطيع – على ما سيأتي – أن يرفض العلاج وله أن يكتب موافقته على عدم إنعاشه بأي جهاز أو دواء. ومن الناحية الأخلاقية أيضاً على الطبيب إبلاغ المريض حين يكون احتمال نجاح العلاج أو الإجراء الطبي ضعيفاً، مثل ما لو كان مريضاً بمرض عضال. وحينئذ للمريض حق القرار في العلاج أو رفضه، وإذا رفض فهذا يعني أن فترة حياته لن تُمدد اصطناعياً. في هذا السياق، يقول أحد الغربيين: ليس هناك أكثر قسوة من لعب دور الله من خلال التمسك المصطنع بما يريد الله أن يحضره إلى المنزل. يؤيد هذا وجود حركة تدعو إلى الموت بكرامة والتي تشجع عدم اتخاذ الآلات والأنابيب دوراً في تمديد الحياة.
في قضية نانسي كروزان والتي اختارت الموت على أن تظل حية بأجهزة الإنعاش بشهادة عدد من زملائها بأنها قد أخبرتهم قبل مرضها بأنها لا ترغب العيش كالخضروات. والتعبير هنا “بالخضروات” لطيف، فالخضار لا تعيش إلا ما دامت تُسقى وهي متصلة بساق شجرة، بخلاف الإنسان والحيوان. وبمثل هذا تقريباً يصف الطب الشخص الميت دماغياً بأنه في حالة نباتية. بل ابن قيّم الجوزية استخدم هذا المصطلح في كتابه “التبيان في أقسام القرآن” (ص221) حين فرّق بين حركة الجنين وإحساسه قبل نفخ الروح وبعدها. فذكر أن حياة الجنين قبل النفخ هي حالة نباتية فحالته حالة نمو واغتذاء كالنبات، وليست حركة نموه واغتذائه بالإرادة، فلما نُفخت فيه الروح انضمت حركة حسيته وإرادته إلى حركة نموه واغتذائه.
ومن جانب عقدي وأخلاقي فإن علماء الدين والأخلاق يفرقون بين الرعاية الطبية العادية وغير العادية، مع الاعتقاد بأن الحياة هبة من الله وأنه لا ينبغي الاعتداء عليها حتى ولو من الشخص نفسه، وبالتالي لا يلزم بذل علاج استثنائي لإطالة العمر بما يُثقل على المريض وأسرته. في مقابل هذا الرأي، فريق المدافعين عن الحق في الحياة قد أبدوا قلقهم بأن هذا الرأي قد يكون له تداعيات بعيدة المدى باستخدام “الحق في الموت” ضد المعاقين وضد المسنين في دور الرعاية، إذ يُمكن أن يُسلك بهم طريق الموت جبراً. فهناك أطباء وممرضون وعوائل عديمي الضمير ولديهم مصالح خاصة دون اعتبار لمصلحة المريض. وعلى أي حال، فالأغلب أن الأطباء حتى لو أقنعوا المريض وعائلته أو ممثليهم بعدم جدوى العلاج فإنهم لا يريدون التسبب في الوفاة عن قصد، لذا تجد بعضاً منهم قد يمتنع عن اتخاذ قرار سحب الأجهزة المغذية أو قرار القتل الرحيم.
القضية الثانية: الانتحار:
في سياق الحالة السالفة بأن للمريض حق رفض العلاج مما يعني اختيار الموت ورفض الحياة، فهل يمكن تصنيف ذلك على أنه انتحار؟
قد يكون من المناسب هنا الاستشهاد بقضية بوفيا في الولايات المتحدة الأمريكية (Bouvia) – مريضة بشلل دماغي- وفيها أن المحكمة أقرّت أن أخذ الطبيعة مجراها – في موت إنسان – لا يُعد انتحاراً حتى لو كان بتشجيع من آخرين. وأوضحت أن تفضيل الموت الطبيعي على حياة مخدرة بجهاز ميكانيكي لا يمكن اعتباره غير قانوني أو مخالف للأخلاق. فاستنتاج المحكمة هنا من شأنه أن يُثير تساؤلاً عما إذا كانت المحاكم تفتح الباب لاستخدام التجويع القانوني لمرضى غير ميؤوس من شفائهم ولكنهم يرغبون في الانتحار! والمراد بمصطلح التجويع القانوني هنا هو الموت القانوني.
هذا الجدل يشير إلى أن مسألة إيقاف الحياة واختيار الموت لا تزال بين شد وجذب، بدليل مقاضاة طبيبين في قضية باربر بتهمة القتل أو التآمر بارتكاب جريمة قتل؛ لاستجابتهما لطلب أسرة المريض – باربر- حين أوقفا عنه أجهزة الانعاش والأنابيب الوريدية، بعد مشاورة عائلته الثمانية. فالمريض – باربر – حين أُصيب بسكتة قلبية في غرفة الإنعاش بعد الجراحة، حاول الطبيبان إنعاشه إلا أنهما تراجعا عن ذلك بعد موافقة عائلته على وقف أجهزة الإنعاش. فقرر القاضي أن الطبيبين لم يقتلا المريض لأن سلوكهما لم يكن سبباً مباشراً لوفاته. ورغم عدم إدانة الطبيبين إلا أن مثل هذه المسائل قد تجعل الطبيب على مفترق طُرق، هل يستمر بعلاج من هو في غيبوبة أو في مرض ميؤوس منه أم لا؟ ما لم يحميه القانون فإنه سيتردد في تلبية رغبة المريض أو أسرته في إبعاد أجهزة الانعاش عنه.
في المملكة العربية السعودية يمنع نظام مزاولة المهن الصحية في المادة التاسعة عشرة إنهاء – بأي حال من الأحوال- “حياة مريض ميؤوس من شفائه طبيًّا، ولو بناءً على طلبه أو طلب ذويه”. ولم يوضح النظام مسألة سحب أجهزة الإنعاش من مريض إلا أن المجمع الفقهي أجازه في دورته العاشرة عام 1408ه / 1987م إذا ثبت موت الدماغ ثبوتاً قطعياً. ورأى أنه لا يجوز إيقاف العلاج عن المريض إلا إذا قرر ثلاثة من الأطباء المختصين الثقات أن العلاج يُلحق أذى بالمريض ولا تأثير له في تحسن حالته، مع أهمية الاستمرار في رعايته وتغذيته وإزالة الآلام أو تخفيفها قدر الإمكان. وأكد المجمع على منع تعجيل وفاة المريض بما يسمى بالقتل الرحيم لأنه محرم شرعاً بأي صورة سواءً أكان بطلب من المريض أم قرابته .
بقراءة قرار المجمع الفقهي يُمكن إثارة بعض المسائل. فمثلاً تجويزه إيقاف العلاج عن المريض بقرار من ثلاثة اطباء ثقات قد جاء على افتراض احتمالية موت المريض وإن كان دماغياً. والسؤال، هل ثبت رجوع حالة ميتة دماغية إلى الحياة ولو دون تركيب أجهزة إنعاش؟ إذا ثبتت حالة ولو واحدة، فهنا قد يكون إيقاف العلاج عن المريض الميئوس منه وإنْ بقرار من عدد من الأطباء فيه نظر. لأن الروح لا تزال بجسد هذا الميت دماغياً، وخروج الروح هو مناط الحكم بتحقق الموت، وقد يكون حال المريض وهو ميت دماغياً حالة احتضار، أي حالة انتزاع الروح. وحالة النزع يُسن معها الإحسان إلى المريض كقراءة سورة يس، كما جاء في الأثر. فهل إبقاء أجهزة الإنعاش إحسان إلى المريض لتخفيف حالة الاحتضار عنه، أم هي إطالة أمد لها وبالتالي يتعذب بها؟ وإذا تقرر ذلك، فحالة الميت دماغياً إما أن تكون حالة نزع أو حياة أو موت. ولا يمكن القول بالحالة الأخيرة لأننا لا نُرتب عليها إرثاً ولا عدة، ليس هذا فحسب بل لأن علامات الموت التي ذكرها الفقهاء مثل شخوص بصره وميل فكّه وتعفن رائحته وتيبسّ مفاصله ونحوه لم تظهر. ولو قلنا بحياته فيصبح إيقاف العلاج عنه فيه نظر، ولم يبق إلا حالة الاحتضار – النزع-.
وعليه يكون الرأي بإطلاق حكم الموت الدماغي على مريض ليس بهذا الجزم، وقد يُطعن في قرار الأطباء الثلاثة. وقد استدل بعضهم على صحة تعطيل أجهزة الإنعاش عن الميت دماغياً نظراً لتعطّل دماغه كاملاً، بأن حياته هذه لا عبرة بها قياساً على الحالة النباتية للجنين قبل نفخ الروح. فحالة الميت الدماغي تشبه حالة الجنين قبل النفخ بجامع عدم الحركة في كلٍ، فكما أن الجنين يتغذى كالنبات وحركته ليست بالإرادة فكذلك الميت دماغياً يتغذى بالأجهزة وليس بالإرادة. وطالما أن حالة الجنين قبل النفخ لا عبرة بها فكذا في حالة الميت دماغياً. أي قياس حياة الميت دماغياً على حياة الجنين قبل نفخ الروح فيها، فكلاهما حالة نباتية، وليست حيوانية.
ورغم قوة هذا القياس في الظاهر إلا أنه يُشكل عليه الفرق بين الحياتين، فحياة الجنين لم تثبت بعدُ، في حين ثبوت حياة الآخر بيقين، ولا يزول اليقين إلا بمثله، والحالة النباتية في الجنين ليست حياة يقينية بل اليقين عدمها.
ومن المسائل المتفرعة عن مسألة الانتحار، إلى أي مدى – أخلاقياً وقانونياً – يُمكن قبول مساعدة الطبيب لمريض على الموت؟ في هذا السياق نستدعي كتاب ديريك همفري – Derek Humphry المعنون بـ “الخروج النهائي” ((Final Exit حيث يشرح الجوانب العملية للانتحار، وبسبب موضوعاته عام 1992 كانت هناك دعوات لحظره إلا أنها باءت بالفشل بموجب الدستور الأمريكي. وقد أسس المؤلف جمعية هيملوك Hemlock Society التي دافعت عن حق الطبيب في مساعدة المرضى والمصابين بمرض عضال أو خلل عقلي على الموت. وكانت مهمة الجمعية توفير معلومات للمرضى ودعم التشريعات لهم في الانتحار بمساعدة طبيب. وقد اندمجت الجمعية – لاحقاً – مع مجموعة أخرى، تعرف اليوم باسم الشفقة والخيارات Compassion and Choices. وهي منظمة رائدة غير ربحية تلتزم بمساعدة أي شخص في الحصول على أفضل موت ممكن.
القضية الثالثة: تشريح الجثة:
إن تشريح الجثث يأتي لعدة وظائف منها: التأكد من سبب الوفاة بما يجيب عن عدد من أسئلة التحقيق الجنائي ونحوه. فالتشريح يكشف عن سبب الوفاة فإن كان لجريمة فيُتخذ إجراء مناسب، وقد يكون السبب يرجع إلى مكان العمل فيستحق الورثة مبلغ التأمين أو تعويضاً عن الأمراض المهنية. وقد لا يكون شيئاً من ذلك كما يحصل في الكليات الطبية لأغراض التعليم والتدريب. غير أن تشريح الجثة يتطلب موافقة من المتوفى قبل وفاته أو موافقة قريبه بعد وفاته. ولو حصل تشريح دون إذن فتجوز المطالبة بالتعويض على المخالفة الشرعية والمسؤولية التقصيرية، بإثارة عدة مسائل مثل: تشويه الجسم أو تشريح غير مصرح به أو حجز غير مشروع للجثة أو نشر صور المتوفى.
في هذا السياق سنّت معظم الولايات المتحدة الامريكية تشريعات لوضع الأُطر العامة فيما يتعلق بتشريح الجثث لحماية حقوق أقارب المتوفى، وتزويدهم بإرشادات في إجراءات الحصول على الموافقة على التشريح حيث تنص معظم التشريعات على حق الفرد في الإذن بتشريح جثته قبل الوفاة، وغالباً ما يُشترط أن تكون موافقته مكتوبة. أما الولايات التي لا يوجد فيها مثل هذه التشريعات فقد يُستخدم قانون التبرع بالأعضاء والذي بموجبه قد يُفسّر بشموله تشريح الجثث، لكن ليس من الحكمة الاعتماد عليه فقط. ورغم أن المحاكم قد تؤيد رغبة المتوفى فيما يتعلق بالتعامل مع جثته إلا أنها قد لا تؤيد رغبة المتوفى في التشريح حين يتدخل بعض أقاربه بأسباب مقنعة – وخاصة الزوج – فيُقدم طلبه على رغبة المتوفى.
نتناول هنا قضية (كالسن ضد دار شلتنهام يورك لرعاية المسنين)[Callsen v Cheltenham York Nursing Home]حيث كالسن امرأة عجوز توفيت في دار مسنين ثم نقلوا جثتها إلى مركز أنشتاين الطبي الذي قام بتشريحها لأغراض تعليمية. وحين علم أقاربها رفعوا دعوى قضائية ضد الدار لنقل جثتها إلى المستشفى دون علمهم. وقد تمسك المدعى عليهم بحصانتهم من المسؤولية بموجب أحكام حسن النية الواردة في قانون الهدايا التشريحية الموحد Uniform Anatomical Gift Act . إلا أن المدعين أجابوا بأن الدار قد أخطرت المركز بعدم وجود معلومات عائلية لكالسن. وهذا تضليل في المعلومات فالدار تحتفظ بسجلات الزوار حيث زارها أقاربها في مايو 1990. وفي نفس الوقت فإن المركز الطبي لم يبذل جهداً في البحث عن أقارب المتوفى لإخطارهم بنقل جثة المتوفى إليهم. فعائلتها لم تكتشف مكان وجود جثتها إلا بعد حوالي 10 أيام من وفاتها، وحينذاك كان المركز قد شرع في تشريحها. وأضافوا أن إهمال المدعى عليه في عدم اتباع الإجراءات القانونية لإخلاء جثة متوفى كان جسيماً. وأيدت المحكمة الدفوع الأولية للمركز الطبي فرفضت الشكوى. بيدَ أن الاستئناف أثار مدى مسؤولية المركز الطبي في بذل جهود معقولة للبحث عن أقاربها. وبالتالي ارتأت المحكمة التريث إلى حين تقديم المزيد من المرافعات.
القضية الرابعة: زراعة الاعضاء والتبرع بها:
موضوع التبرع بالأعضاء مترتب على الوفاة وذو صلة بقضايا نهاية الحياة. ومما قيل في هذا الموضوع أنه رغم إيمان معظم الناس بأهمية زراعة الأعضاء فإن أقل من نصفهم يوافق على التبرع بأي عضو بعد موته. وقد يكون ذلك عائد إلى جِدة موضوع الزراعة وحداثته، فالتطور الطبي قد مكّن من نقل نسيج أو عضو من متوفى إلى مريض. في المقابل قد ولّد هذا قلقاً من مسألة أخرى وهي المتاجرة بالأعضاء. لذا أصدرت الولايات المتحدة قانوناً ينظم ذلك عام 1984. أيضاً المملكة العربية السعودية أصدرت عام 1442/2021 “نظام التبرع بالاعضاء البشرية” في 27 مادة، ولائحة تنفيذية. وقد صدر قبل ذلك بعشرة أعوام تنظيماً للمركز السعودي لزراعة الاعضاء عام 1434 – 2012 في عشرة مواد. وقفلاً لباب المتاجرة بها حظر نظام التبرع بالأعضاء في المادة 12 على المتبرع أو أحد أقاربه تلقي أي مقابل عن ذلك سواء من المتبرع له أو أقاربه أو أي منشأة صحية أو غيرهم. بل شمل الحظر الوسيط الذي سعى في إيجاد متبرع. وأكثر من ذلك، صنّفت المملكة نزع الأعضاء دون موافقة على أنها اتجاراً بالبشر في المادة الثانية من نظام مكافحة الاتجار بالأشخاص. بل ذهبت اللائحة التنفيذية لنظام التبرع في المادة 11 إلى أعمق من ذلك وهو حظر “مشاركة أي عضو من فريق زراعة الأعضاء في عملية توثيق الوفاة” حتى لا يُتهم في توثيقه للوفاة بأن غرضه الاستعجال في نقل عضو متوفى لزراعته في مريض. وهذا ملحظ دقيق تنبهت إليه وزارة الصحة، إذ قد يظن القارئ أن مسألة تحديد وقت الوفاة مسألة يسيرة. والحقيقة أن تلك اللحظة التي يُحدد فيها وقت الوفاة تنطوي على مسائل قانونية وأخلاقية، مثل: الحقوق في ممتلكات الشخص المتوفى، ومنها الأعضاء في حال موافقته سلفاً على التبرع. وبالتالي تصبح مسألة تحديد لحظة الوفاة ذات أهمية بالغة. وهنا يمكن إثارة مسألة إنعاش الميت دماغياً، وعزل أجهزة الانعاش عنه، وهل لمسألة الموافقة على التبرع أثر في عدم الحرص على حياته؟ وما جدوى الطرق التقليدية في تحديد الوفاة؟
القضية الخامسة: الخلايا الجذعية:
في تسلسل هذا السياق نأتي إلى مسألة أبحاث الخلايا الجذعية باستخدام الخلايا الجينية في إنشاء أعضاء وأنسجة مختلفة للجسم، ولا تزال هذه المسألة محل نقاش وجدل. وقد يكون منشأ هذا الجدل معتقدات دينية ومخاوف من خلق إنسان آخر كاستنساخ خروف يدعى دولي عام 1996. ولا نعرف ماذا يجري وراء أبواب البحث المغلقة إلا أن الاحترازات أو الأخلاقيات – والصراعات السياسية أيضاً- قد تسببت في تباطؤ البحث عن إيجاد علاجات للسرطان واضطرابات المناعة الذاتية وأمراض القلب. ويحتج معارضوا أبحاث الخلايا الجذعية بأن ذلك طريق إلى استنساخ متعدد للتكاثر مما يحط من قيمة الإنسان. وفي مقابلهم، يرى بعض الباحثين أنه قد بات من الضروري استمرار هذا النوع من الأبحاث.
والحقيقة أن مسألة الاستنساخ قد يُجيب عليها مسألة الإيمان بالقضاء والقدر، فتطور العلم ووصوله إلى مرحلة الاستنساخ لا يُعد مناهضه لله في خلقه، فالله قد خلقهم وما يعملون. وقد قرر هذا بقوله: “أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ۚ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ”. فمهما عملوا لن يخرجوا من القدر، بيدَ أن الجشع والبحث العلمي والمبالغة في الإنفاق قد يُقال بأن منشأه عدم الرضا بالقدر. في المقابل، لا يريد القدر منك التوقف عن البحث والمطالعة والمحاولة.
القضية السادسة: الجينات الوراثية:
ويتعلق بموضوع الخلايا الجذعية مسألة الجينات الوراثية. فاختبارات تسلسل الحمض النووي لشخص ما يُمكّن من تحديد أمراض معينة، ومعرفة العلاقة بين مرض وراثي وسببه الوراثي، ومن ثم تحديد احتمال إصابته بمرض معين. وثمة شركات تفحص الشخص وتزوده بتقرير عن المخاطر الصحية المحتملة. ويتسابق على ذلك شركات التأمين الصحي والتأمين على الحياة وأصحاب الشركات وغيرهم بُغية استخدام الفحص الجيني لتحديد أقساط التأمين ومدى صلاحية شخص ما لوظيفه وما إلى ذلك. ولا شك أنه قد يُساء استخدام هذا العلم، فعلى سبيل المثال: لنفترض أن امرأة تاريخها العائلي يشير إلى وجود سرطان الثدي، وهي بذاتها تحمل هذه العلامة الوراثية، لكنها لا تزال شابة في عمر الثلاثين عاماً وخالية من أي دليل على إصابتها بسرطان. فماذا لو حدث -لاحقاً بعد سنوات – إصابتها بهذا المرض مما استدعى استئصال ثديها. هل شركة التأمين ملزمة بتغطية ذلك؟
في الولايات المتحدة رفعت كاتسكي Katskee دعوى ضد شركة الصليب الأزرق للتأمين الصحي Blue Cross ( 1994) لرفضها تغطية تكلفة الجراحة السابقة في علاج حالتها الوراثية المسماة متلازمة سرطان المبيض. وعللت الشركة رفضها بأن المدعية لا تعانِ من مرض، وأن إجرائها لعملية استئصال الرحم والمبيض كان بناء على توصية طبيب نظراً لتاريخ عائلتها الوراثي، وبالتالي فهو إجراء وقائي وليس مرضاً يغطيه التأمين. اقتنعت المحكمة ابتداء فرفضت دعوى المدعية بيدَ أن الاستئناف حكم للمدعية لأن شركة التأمين لم تُقدم دليلاً على أن حالة المدعية يرجع إلى التركيب الجيني. ورأت المحكمة أن أدلة المدعية أثبتت معاناتها من اضطراب جسدي والذي بناء عليه أوصى الطبيب باستئصال الرحم والمبيض، وبالتالي فهو مرض تشمله بوليصة التأمين.
نختم هنا بمسألة مهمة وهي أن طلب معلومات عن فحص فرد ما جينياً سيجعل الشركات سواء التأمين أو التوظيف تتردد في قبوله أو زيادة قسط التأمين عليه لاحتمالية إصابته بمرض وراثي. احتياطاً من ذلك أصدرت الولايات المتحدة عام 2008 قانوناً يحظر التفرقة في المعلومات الوراثية، أي هذا القانون يحظر على شركات التأمين رفض التغطية للفرد السليم أو زيادة القسط التأميني على ولده لاحتمال الإصابة بمرض وراثي. ويحظر أيضاً على أصحاب الوظائف استخدام المعلومات الوراثية للفرد لأجل توظيفه أو فصله أو ترقيته.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال