الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
من أكبر الأخطاء التي يقع فيها عامة الناس في فهم الاقتصاد هو عدم تقديرهم بمقدار سرعة التغييرات الاقتصادية الناتجة عن أحداث عالمية كبرى و مدى تأثيرها على الواقع الذي نعيشه. هيكلة الاقتصاد العالمي اليوم أصبح مختلف بشكل جذري عما كان من بعد سقوط جدار برلين، وذلك بسبب حرب روسيا في أوكرانيا، وكورونا. هنا أريد أن أطرح بعض أهم التغييرات التي برأيي يحتمل تكون جزء أساسي من هيكلة الاقتصاد العالمي للثلاثين سنة القادمة ومقارنتها بالهيكلة التي تكونت من بعد انتهاء الحرب الباردة حتى عام 2020.
أهم تغيير سيشهده الاقتصاد العالمي خلال الفترة المقبلة هو تراجع العولمة بشكل عام، ودور الصين بشكل خاص. بعد عام 1991، تكونت لدى رواد الاقتصاد والشركات العالمية فكرتين مهمة: انتهت عصر الحروب والتجارة العالمية هي الطريق للنمو (او ما يسمى بالتجارة الحرة). فخلال التسعينات توسع دور منظمة التجارة العالمية، و تضخم الاستثمار الأجنبي بالصين، وبالتالي دور الصين في الاقتصاد العالمي عن طريق التصنيع. هذا الأمر لا يقتصر على الصين فقط، فحتى روسيا (التي كانت قبلها الاتحاد السوفيتي) وجدت نفسها محل استثمارات عالمية ضخمة من قبل شركات الغاز والنفط، وحتى الشركات مثل ماكدونالدز.
لكن اختلفت المعادلة اليوم بسبب ثلاث عوامل: الأول أن اتضح لدى الشركات العالمية أن يوجد مخاطرة عالية من أن احدى الدول التي تستثمر فيها تقوم بخوض حرب غير مبرر (في عيون الغرب) وبعدها ستخسر جميع استثماراتها في تلك الدول، مثل ما حدث ما ماكدونالدز في روسيا. فلآن أصبحت الاستثمارات في دول معينة (مثل الصين) أكثر خطورة مما ينتج تقليل في قابلية الشركات العالمية (حتى تلك التي ليست في الغرب) بالاستثمار في دول لا تضمن استدامة سياستها الخارجية مع مبادئ الغرب. السبب الثاني أن أتضح أن الصين خاصةً مستعدة تضحي بنشاطها الاقتصادي مقابل أهداف سياسة معينة. فخلال السنتين الماضية، قامت الصين بتطبيق سياسة راديكلية مسمى ب”صفر كوفد”، بحيث لا تقبل حتى حالة وحدة في أي منطقة، وفي حال وجود حالة، تقوم بإقفال جميع المصانع والنشاط الاقتصادي في تلك المدينة مثل ما حدث في شنغهاي، وسبب ذلك خسائر كبرى للشركات الأجنبية التي تتواجد مصانعها في الصين، مثل تسلا. فسابقاً كان ينظر للحكومة الصينية كصديقة للشركات العالمية بحيث أولويتها النشاط الاقتصادي وبالتالي تضمن الشركات تلك استثماراتها بالصين. الآن أتضح أن الحكومة الصينية مستعدة تقتل النشاط الاقتصادي لمناطق كاملة بدل من السماح بانتشار كورونا. والسبب الثالث هو أن ارتفاع اسعار الطاقة، مع عدم وضوح متى ستنخفض، وضحت لدى الشركات أن تكلفة صناعة منتج في دولة بعيدة ومن ثم نقلها للغرب أصبح يأكل في هامش الربح بشكل لا يُقبل.
هذه العوامل الثلاثة جعلت من الفكر الاقتصادي والفكر التجاري اليوم مختلف تماماً عما كان في مطلع التسعينات حتى بداية كورونا. أصبحت فكرة التجارة الحرة وتركيز الصناعة في الصين والتركيز على الطاقات المتجددة بدل من الأحفورية اليوم محل شك لدى الكثير. حالياً نشهد بداية هذا التحول، بحيث أصبحت الشركات الغربية وخاصة الأمريكية تتجه لسياسة تسمى “الشواطئ الصديقة” و سياسة “الشواطئ المحلية”، بحيث الأول هو سياسة تغيير موقع الانتاج من الصين إلى شركات صديقة معروفة بعلاقتها الوطيدة بالغرب، مثل الفلبين والهند (مثال على ذلك إنتاج شركة أبل للآيفون الجديد في الهند ) و الثانية تتعلق بالاستثمار في المصانع المحلية في الغرب (مثال على ذلك ارتفاع الإستثمار الصناعي في أمريكا بأكثر من 100%). وأخيراً أصبحت الدول الغربية التي نافرت الطاقة الأحفورية الآن من أكبر المستثمرين في الطاقة الغازية والنفطية لتقليل الضغط الحاصل على اقتصادهم نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة، وحتى رجوعهم للإستثمار في الطاقة النووية.
بشكل عام، فكرة العولمة وتبعاتها الاقتصادية والتجارية تراجعت بشكل عظيم من بعد مارس 2020. العالم الذي سنشهده خلال العشرين السنة القادمة سيكون مختلف هيكلياً عما كان، ولابد لنا أن ندرس قرارات معينة تواكب هذه التغييرات. أولها أن نكون مستعدين لنتائج الإستثمارات الضخمة الحالية في الطاقة لما تبدأ تأثيرها (بعد عام إلى ثلاث أعوام بتقديري)، بحيث أن هذه الاستثمارات يرجح أنها تساهم في زيادة ضخمة في كمية النفط والغاز المتوفر في الأسواق العالمية. بالإضافة إلى ذلك، تقليل العولمة وتركيز الشركات العالمية على الاستثمار في الدول التي تضمن علاقتها مع الغرب قد ينتج عنه تقليل في مستوى الاستثمار المباشر في المملكة، ولابد من أخذ هذا في عين الاعتبار في التخطيط الاقتصادي بالمملكة. وأخيراً، لابد من مراجعة لإستثمارات المملكة في الدول التي سوف تعاني من هذه التغييرات وإذ قد يكون مناسب سحب استثمارات المملكة منها أم لا.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال