الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لا تكاد أحاديث المجالس اليوم، تخلو عن العملات الرقمية، وتقنية البلوكتشين، وغيرها من الخدمات الفنتك المالية. هناك فريقٌ يرى أنها مجرد موجة عابرة؛ كما يقول فولكر، الرئيس السابق لمجلس الاحتياطي الأمريكي السابق. فحسب تعبيره “فلا يوجد اختراع مالي يستحق الإشادة به إلا ابتكار الصرافات البنكية ATM “، وهذا الرأي ليس ببعيد من المستثمر المعروف وارن بافيت، حيث يرى على سبيل المثال، أن العملات الرقمية كالبيتكوين ليست سوى فئران مسمومة، لن يشتريها، حتى لو عرضت عليه كاملة بـ 25 دولارًا. وهذا التشاؤم يشابه بداية الشكوك حول الشركات التقنية، كأمازون، وقوقل، والتي قلبت موازين المنافسة مع كبريات الشركات العالمية مثل شركة ولمارت. إن هذا التأخر في اللحاق القانوني؛ يضع صانع القرار في حرج كبير، كما يحدث اليوم مع الكونغرس الأمريكي، والذي يجد نفسه في مواجهة صعوبات قانونية لإعادة تكييف القوانين؛ كالمنافسة، و الملكية، والعلامات التجارية، والخصوصية، حتى تتناسب مع شركات مثل أمازون وقوقل.
وهناك فريقٌ آخر ممن يؤمنون تمامًا بهذا العالم الجديد، وهم على يقين بأنه ستكون هناك ثورة على كل ما نعرفه، حتى بالتفاؤل باختفاء العملات الورقية. لهذا الزخم هو أمرٌ مستحق. ولكن للأسف، بدأت بعض المحاولات البائسة من بعض الشركات الناشئة، باستغلال هذه الموجة لرفع قيمتها السوقية بإضافة كلمة TECH لاسمها؛ لتعطي إيحاء أنها شركة فنتك. لهذا فإن المبالغة في المديح قد تكون له نتائج عكسية. لا أحد يعلم أي الفريقين على حق؛ فالمستقبل مجهول. لهذا فإن أخذ خطوات متوازنة يُعَدُّ أمرًا مهمًا، بالذات في استعمالات تقنية البلوكتشين.
الحقيقة أن شركات الفنتك، أصبحت اليوم تشكل هاجسًا على كافة الأصعدة، الاجتماعية، والاقتصادية، وحتى القانونية؛ فما كان يستغرق المؤسسات المالية التقليدية عقودًا للوصول إليه؛ أصبح لا يستغرق سوى شهور قليلة؛ مع الإنترنت والهواتف الذكية، كما نرى مع منصة Zopa البريطانية، والتي تخطت قيمتها السوقية مليارات الدولارات في فترة قصيرة، كدليل على قدرة شركات الفنتك في التطور والتوسع. لهذا، فإنه من المنطقي أن ترى المؤسسات المالية التقليدية كالبنوك العملاقة، تجاهلت لسوء تقدير ظهور شركات الفنتك، واليوم هي تنافسها وتقدم خدمات مالية بشكلٍ تنافسي وبأسعار قليلة وكفاءة عالية.
ولكن السؤال الكبير؛ ما معنى مصطلح الفنتك Fintech؟ حتى هذه اللحظة، لا يوجد تعريف يوضح مصدر هذا المصطلح أو معناه؛ رغم أن بعض المصادر تشير إلى ظهوره بين أعضاء بنك سيتي قروب. ولكن بشكل عام، فإن كلمة الفن-تك، تعني المزاوجة في استعمال التقنية لتقديم خدمات ومنتجات مالية. والأمر المهم، أنه لا يوجد تماثل في منتجات الفنتك؛ فهي تختلف من بيئة إلى أخرى؛ فعلى سبيل المثال: عندما تزداد تكلفة فتح حساب البنك الجاري في دولة ما؛ تجدها شركات الفنتك والناشئة فرصة في تقديم مثل هذه الخدمة بسعر أقل؛ لعدم الحاجة لوجود مواقع أو موظفين. وتزداد أهميتها مع انعدام البنية التحتية، أو عدم رغبة المؤسسات المالية في تقديم خدمات للمواطنين للتكلفة العالية ؛ كما هو الحاصل مع خدمة التحويل في شركة الفنتك الكينية M-Pesa. ولا تختلف فقط خدمات الفنتك، بل أيضًا حتى المستفيد النهائي. فمثلًا تشير الإحصائيات، أن المستهلك الأول لمنصات التمويل في الولايات الأمريكية؛ هم إما مجرد مواطن يحاول دفع قرض بيته أو فاتورة الكهرباء، عكس الوضع تمامًا في الصين؛ حيث إن المستهلك لهذه المنصات؛ هم الشركات الصغيرة والمتوسطة. ومن هنا يكون المحك الحقيقي، بين حماية المستهلك القليل الخبرة، مقارنة بالشركات المتوسطة والصغيرة.
لا شك أن شركات الفنتك تقدم منتجات وخدمات مالية بأقل تكلفة، مقارنة بالشركات المالية التقليدية؛ لهذا ينظر إليها البعض، على أنها رافدًا مهمًا للمجتمعات، وبالأخص الطبقات المتوسطة والفقيرة الأفريقية؛ وذلك بدمجهم في المجتمع، أو تخفيف مشقة سفرهم بالساعات لتحصيل رواتبهم؛ لانعدام وجود حسابات بنكية، فضلًا عن تخفيفها من حدة آثار الاحتكار السلبي للشركات المالية العملاقة.
ومع هذه الإيجابيات للفنتك؛ فهي لا تخلو من مخاطر خسارة المستثمرين والمستهلكين لأموالهم، وبياناتهم ومعلوماتهم الحساسة، وقد يفتح الباب لجرائم غسيل الأموال والتشكيك في قوة ومتانة مؤسساته القانونية؛ لاسيما في حال فشل هذه الشركات الناشئة؛ مما يعرض المستهلكين والدول لخسائر كبيرة، كما حدث في فضيحة الفنتك واير كارد الألمانية. لهذا، فإن هناك حاجة لضبط المسألة، بين التشجيع على الابتكار والاختراع، وفي نفس الوقت ضبط المسألة قانونيًا.
لو تحدثنا عن النظرة القانونية قبل الحديث عن الحاجة للابتكار والاختراع، وبشكل أعمق عن علاقة طبيعة الفنتك القانونية بالقوانين الأخرى؛ كالقانون التجاري، ونظام الشركات، وأنظمة الأسواق المالية والضريبية، والمسؤولية المدنية والجنائية…الخ. هذه العلاقة تظهر صعوبتها بالذات في الدول العربية مقارنة بالدول الأنجلوسكسونية، حيث تكون للمحاكم الأمريكية والبريطانية القدرة في تمطيط وتفسير الأنظمة الحالية، وتكييفها بما يتناسب مع منازعات الفنتك والعقود أمامها. لهذا من المهم أن يكون لدينا فهمًا واضحًا؛ حتى نستطيع تكييف الأنظمة الحالية مع ما يناسبها. سواء من الناحية الموضوعية أو الإجرائية.
دعونا نتحدث عن بعض الأمثلة بداية من النظام التجاري، وهو الأساس القانوني لشركات الفنتك لممارسة العمليات التجارية؛ بدءًا من الحصول على الرخصة. التساؤل الأكثر تعقيدًا، هل يمكن للمنصة التي تعمل بواسطة البلوكتشين أن تمنح رخصة، وهل للمنصة شخصية قانونية كما هو الحديث في إحدى الولايات الأمريكية، ومن يستحق تلك الرخصة بدايةً؟ وهل ستطبق المسؤولية القانونية التجارية والمدنية على منصات الفنتك، كحال مزودي خدمات التقنية؟ وماذا عن تلك التي تعمل على تقنية البلوكتشين دون التدخل البشري المباشر؟ وماذا عن النزاعات القانونية حول الفنتك أو عقودها، خاصة تلك العقود الذكية المعلقة على النفاذ في حال تحقق الشرط منها؛ عكس ما يتم تدريسه في كليات الحقوق عن العقود المدنية والتجارية؟ أو مسؤولية المستشار المالي الروبوت المدنية أو الجنائية؟ أو عدم وصول محل العقد؛ كما لو كانت عملة رقمية، أو حصل ارتفاع أو انخفاض في سعرها قبل وصولها للبائع، كمًا بدأت تمتلئ أروقة المحاكم الأمريكية والبريطانية بهذه القضايا؟
ولا ننسى معضلة تعارض المصالح بين من يديرون المنصات مثلًا، وبين طالب التمويل، من سهولة أو صعوبة الحصول على المعلومة، أو القدرة على تحليل المخاطر وهكذا. فلو أخذنا على سبيل المثال منصات التمويل الجماعي؛ فمن مصلحة من هم خلف المنصة، أن يعرضوا الكثير من فرص طلبات التمويل على المنصة؛ لتحقيق المزيد من العمولات، وهذا قد لا يكون من مصلحة المستثمر “الممول”، والذي قد يرغب أن تكون المنصة حذرة في اختيار المشاريع ومراعاة مصالحهم، والفحص القانوني لهذه المشاريع التي تطلب التمويل. ولا شك سيتغير هنا تكييف العلاقة القانونية بين المستثمرين في المنصة، لو قررت المنصة عوضًا عن الحصول على عمولة؛ أن تكون مستثمرة بحصة في المشروع بشكلٍ مباشر. لهذا نحتاج فهمًا قانونيًا للفنتك؛ لأنها بدأت تظهر إشكاليات – يفترض- أن لها الأثر الكبير على الأنظمة القانونية ذات العلاقة. وهذا الأمر ليس بجديد، كما حصل مع بداية شركات دوت كوم؛ حيث تطلبت الضرورة إلى إعادة النظر في الكثير من المفاهيم القانونية؛ كالتوقيع الإلكتروني، والتسليم، وانتقال الملكية…الخ.
ومن ناحية اقتصادية، فإن الكثير من الاقتصاديين يرون، أن الأنظمة القانونية تمثل تكلفة وعبء يعوق تقدم شركات الفنتك ويحد من توسعها، والتي هي بحاجة للمساحة حتى تكبر وتتشكل. لهذا فإن الحاضرين في مؤتمرات الفنتك، يعبِّرون عن خشيتهم من الأنظمة القانونية، مطالبين أن تأخذ تلك الأنظمة طابعًا تشجيعيًا، تحت مسمى الابتكار والتطور واللحاق بالاقتصاديات المتقدمة، ويتجلى ذلك في منحهم ما يسمى استثناءات، عند عدم تطلب الحصول على تأمين لتعويض المستهلكين. ولكن هذه النظرة تغفل عن استغلال عدم وجود الغطاء القانوني والثغرات القانونية من قبل شركات الفنتك؛ مما يكون له الأثر السلبي على الأفراد والاقتصاد ككل.
وهنا تكمن المشكلة الرئيسية، والفيل الأكبر كما يقال: هو كيفية رسم خط متوازي بين وضع وتحديث الأنظمة لتقنين عمليات الفنتك، وحماية المستهلكين، وعدم تعريض المجتمع والاقتصاد للمجازفة؛ ولكن بشرط أن تكون في حدود لا تؤدي فيه هذه الأنظمة، إلى كبح جماح الفنتك، والابتكار، أو المبالغة في الحماية بشكل يؤدي إلى غلق باب الابتكار. بعبارة أخرى، فتح الباب للشركات والأفراد، لتطوير المنتجات المالية بأقل كلفة وأكثر فعالية، وفي نفس الوقت، المحافظة على نزاهة السوق، وعدم تعريض العملاء لمخاطر جهلهم بالتكنولوجيا واستغلال معلوماتهم. لا شك أنها معضلة كبيرة، تلك التي يواجهها اليوم معظم صانعو القرار. فالوصول لهذا التوازن ليس بالأمر الهين. ومما قد يعقد المسألة؛ هي القوة التأثيرية للوبيات المؤسسات المالية التقليدية، والتي اعتادت عدم المنافسة، واحتكار تقديم الخدمات المالية على سبيل المثال. لهذا فهم لا يرون في منتجات الفنتك، سوى كابوس، ويستغلون قوتهم التأثيرية على صانع القرار، لوضع الأنظمة واللوائح في موقف المحايد؛ دون تفرقة بينها وبين الشركات الناشئة، والتي تحاول تقديم خدمات قد تكون منافسة لهم مستقبلًا. بعبارة أكثر دقة، هم يدفعون أن تقف الأنظمة بحياد؛ بغض النظر عمن يقدم هذا المنتج، حتى على الشركات الناشئة. ومما قد يزيد المسألة تعقيدًا، هو دخول الشركات العملاقة بشكلٍ مباشر في المنافسة، بالذات في الاقتصاد الشبه محتكر كالسوق السعودي. ومن هنا يكون الامتحان الحقيقي لصانع القرار في رسم خط متوازن؛ مما يمنح فرصة عادلة بين الشركات الناشئة وبين الشركات الحالية العملاقة.
هل البيئة التجريبية هي الحل؟ هناك بعض الحلول للوصول لهذا التوازن لكبح المخاطر المحتملة، وفي نفس الوقت منح المرونة لشركات الفنتك باختبار وتجربة منتجاتها، بين التجربة الأسترالية والبريطانية. يأتي في مقدمة تلك الحلو؛ ما يسمى بالبيئة التجريبية، كما هو عليه الواقع السعودي، حال كثير من الدول التي اتبعت المنهج البريطاني. فعلى حد علمي، فإن بريطانيا من الدول الأولى التي طبقت ما يسمى Sandbox أو البيئة التجريبية FCA Sandbox البريطانية، عكس الوضع الممارس في البيئة الأمريكية الأكثر تعقيدًا، بين الجانب الفيدرالي وبين الولايات الأمريكية. إن اختيار المنظم السعودي للتجربة البريطانية، خيار موفق من تجربة السوق الأسترالي، والتي تخول بشكل تلقائي من تتوفر فيه الشروط الحصول على رخصة؛ دون الحاجة للتقدم للجهات الحكومية، بشرط إرسال ما يسمى التنبيه. وهذا لا شك فيه نوع من المخاطرة بحسب وجهة نظري الشخصية، خاصة في بعض المنتجات المالية كتقديم الاستشارات المالية الخ.
ولتوضيح مصطلح الفكرة البيئة التجريبية، هي مثل المختبرات الطبية لاختبار وتجريب المنتج قبل إطلاقه في السوق، بعد إثبات نجاحه، أو عدم الخروج في حالة الفشل، أو لو تجاوزت آثاره السلبية. وحقيقة التجربة على نطاق محدود أمر تقتضيه الحاجة؛ فوجود الفكرة لا يعني نجاحها؛ مالم يتم أخذها للسوق وتجربتها على أرض الواقع. وبنفس الفلسفة، يكون لمن هم خلف منتجات الفنتك تجربة منتجاتهم لمدة معينة، وتحت رقابة هيئة سوق المال أو البنك المركزي، مع حصولهم على بعض الاستثناءات القانونية. فمثلًا لو كان هناك عدة أشخاص يرغبون في تأسيس منصة تمويل P2P؛ فيمكن لهم تجربتها خلال مدة معينة، مع إلزامهم بتقديم إفصاح مثلًا، والمحافظة على معلومات العملاء وغير ذلك. وفي أغلب الأحوال، تمنح هذه الرخص والاستثناءات بالمشاركة في البيئة التجريبية، وهو في الغالب للشركات التي ترغب بتقديم منتجات وخدمات غير تقليدية مهمة للسوق أو للعملاء.
ولكن المشكلة تظل كما ذكرت سابقًا، والتي مازالت معظم الدول تحاول وزنها، وهو هل سيتم تطبيق القوانين الحالية؟ كما تواجه هذه المعضلة السوق البريطاني بالذات في منصات التمويل الجماعي، والتي تتطور بشكل يومي، وتزداد تعقيدًا، تمامًا كالوضع الذي عليه المؤسسات المالية التقليدية، والتي تخضع لقوانين وتنظيمات خاصة مقارنة بمنصات التمويل. وليس حادثة ٢٠٠٨ ببعيدة، أو كثرة منصات التمويل، التي تصل أحيانًا إلى وضع غير منتظم، كما هو الحال في السوق الصينية. فلو أخذنا على سبيل المثال، الإفصاح كمتطلب على معظم شركات الفنتك؛ فهل سيكون الإفصاح كافيًا، وهل للهيئات الحكومية الثقة التامة في سلامة الإفصاح، وهل للجهات مثل الأسواق العربية الخبرة الكافية لفحص مثل هذه الإفصاحات. وأيضًا كيف يكون للمنظمين معرفة أن ذلك المنتج فريد من نوعه؛ فهذا ما سيكون مرتهنًا للعشوائية، وسلطة المنظم التقديرية. وثمة مسألة أخرى، هي التخوف من المنافسة والاحتكار؛ فلا شك أن الشركات الحالية العملاقة، هي مهيأة أكثر للحاق بركب التكنولوجيا؛ مقارنة بالشركات الناشئة بسبب عامل الخبرة والقدرة المالية. وهل سيكون هناك تحرك قانوني سريع يواكب التطور التكنولوجي؟ والمسألة الأهم، والتي دون شك ستشكل هاجسًا كبيرًا، وهي حل نزاعات الفنتك وآليتها، بطرق ترسم خطوط متوازنة بين الرؤية الاقتصادية في حث الابتكار، والمحافظة على سلامة ونزاهة السوق والمستهلكين. وهو ما يطرح التساؤل: هل نحتاج وضع “قوانين لتنظيم الابتكارات أم تنظيمات مبتكرة”؟
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال