الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
كان بين أحد الأشخاص خصومة مع الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، فذهبا إلى قاضي الرياض ابن عتيق، فسألهما “مسيرين وإلا وشو”، فقالا: لا متخاصمين، فطلب منهما: أن يبقيا في (المجبب) لإنهاء خصومتهما، وبعد أن قضى بينهما بما فتح الله عليه، خرجوا جميعا لشرب القهوة. تأتي هذه القصة لتطرح تساؤلاً هل لتطبيق مبدأ سيادة القانون مكان في المملكة؟ .
مبدأ سيادة القانون يشير إلى حوكمة يكون فيها جميع الأشخاص والمؤسسات والكيانات، العامة والخاصة، بما في ذلك الدولة ذاتها، مسؤولين أمام قوانين صادرة علنا، وتطبق على الجميع بالتساوي ويحتكم في إطارها إلى قضاء مستقل، وتتفق مع القواعد والمعايير الدولية لحقوق الإنسان. ويستلزم هذا المبدأ أيضاً اتخاذ التدابير اللازمة لكفالة الالتزام بمبادئ سيادة القانون.
ولهذا نجد كثيراً من الدول تتسابق لتأكيد تطبيق مبدأ سيادة القانون في أنظمتها السياسية، ونظامها القانوني، لتعزيز ثقة الأطراف معها، ولضمانة وجود تشريع واضح يحقق الشفافية والمساواة، وسلطة قضائية مستقلة. وفي هذا السياق يرى الفقيه القانوني ورئيس القضاة الإنجليزي Tom Bingham في كتابه الشهير The Rule of law أن مبدأ سيادة القانون لا يعني فقط عدم وجود شخص فوق القانون، و إنما يعني بصورة أشمل أن كل شخص مهما كانت ظروفه وحالته خاضع لنظام قانوني متكامل وسلطة قضائية مستقلة.
وعندما نستعرض تاريخياً من عهد المؤسس مروراً بالملوك أبناءه رحمة الله عليهم من بعده إلى عهدنا الميمون الحالي للتحقق من تطبيق مبدأ سيادة القانون، خاصة من خلال المعايير الستة التي أقرتها اللجنة الأوروبية للديمقراطية من خلال القانون عام ٢٠٠٥ ،(1) المشروعية، بما في ذلك عملية سن القوانين تتسم بالشفافية والمساءلة. (2) اليقين القانوني. (3) حظر التعسف. (4) الوصول إلى العدالة أمام محاكم مستقلة ونزيهة، بما في ذلك المراجعة القضائية للقوانين الإدارية. (5) احترام حقوق الإنسان (6) عدم التمييز والمساواة أمام القانون، نجد أن هذه المعايير متحققة من خلال الإجراءات التي تمت على النحو التالي:
كان الملك عبدالعزيز رحمه الله مستشرفاً للمستقبل، ومنفتحاً على العالم، فعلى الرغم من الأحداث السياسية التي مرت بها تلك الفترة، إلا أنه كان حريصاً رحمه الله على تنظيم أوضاع البلاد من خلال المجالس المحتفلة ١٣٤٣ه، والنيابة العامة ١٣٤٥، وأخيراً مجلس الوكلاء ١٣٥٠الذي كان يمارس الدور المناط بمجلس الوزراء، ولهذا تم تطور هذا النموذج الإداري بصلاحياته النظامية ليكون مجلساً للوزراء ١٣٧٢.
وللتاريخ، فإن الملك المؤسس إلى جانت اهتمامه بالتنظيم الإداري لدولة مترامية الأطراف، وجهوده الإصلاحية لوضع السياسات اللازمة للتأكيد على وحدة الأراضي لم يمنعه ذلك من إقرار عدد من التشريعات التجارية والاقتصادية الدقيقة لمعالجة أوضاع الاقتصاد بشكل عام والتجار بشكل خاص، حيث تم وضع تشريع واضح و متكامل للأعمال التي تتطلب ذلك، فمثلاً أقر رحمه الله نظام المحكمة التجارية الذي نظم ما يتعلق بالأعمال التجارية، والنظام البحري، والأوراق التجارية، كما تمت الموافقة على نظام العلامات الفارقة والذي يعد نظاماً قانونياً ينظم الملكية الفكرية. وهذا دليل آخر على اهتمام الملك المؤسس على إيجاد نظام تشريع متكامل لتنظيم جميع نواحي الحياة، وهو ما يحقق إلى جانب القصة التي رويت في بداية هذا المقال المعايير: الأول والثاني والثالث والرابع.
ولتنظيم ما يتعلق بالمحاكم تمت الموافقة عام ١٣٧٢ على نظام تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي الذي شمل تكوين رئاسة القضاة ، تفتيش المحاكم الشرعية ، قضاة المحاكم الشرعية ، كتاب المحاكم الشرعية ، كتاب العدل ، دوائر بيت المال، وهذا ما يؤكد على تحقيق المعيار الرابع.
ولعل عهد الملك فهد رحمه الله شهد تطوير السلطة التنظيمية المعنية بإصدار الأنظمة والتشريعات، حيث تمت الموافقة على الأنظمة الأساسية: النظام الأساسي للحكم والذي يتضمن عدداً من الأحكام والمبادئ الدستورية التي تنظم شكل الدولة، ونظام الحكم فيها، وواجبات وحقوق الدولة والأفراد، والسلطات على حد سواء، إضافة إلى تضمنه تأكيداً لاستقلال القضاة والسلطة القضائية بشكل عام.
كما شمل نظام مجلس الوزراء أحكاماً تتعلق بآلية تشكيل المجلس، وحوكمة اجتماعاته، واختصاصاته النظامية. ونظام مجلس الشورى الذي تضمن أيضا اختصاصات المجلس التشريعية، وارتباطه التنظيمي، واجتماعاته، وآلية اختيار أعضائه. وأخيراً نظام المناطق الذي تضمن الأحكام المتعلقة بالتنظيم الإداري للمناطق، وارتباطاتها الإدارية. وجيع هذه الأنظمة تحقق أغلب المعايير الستة خاصة المتعلقة بسن قوانين تتسم بالشفافية والمساءلة وفق نهج تشريعي واضح، وإجراء محدد، وهذه الإجراءات الدستورية العظيمة في عهد الملك فهد تمثل تطوراً جذرياً في وضع نصوص نظامية واضحة تحقق التأكيدعلى حقوق الإنسان، وحقوق وواجبات المواطن والمقيم، وتحديد السلطات في الدولة، ووضع إجراءات محددة لإصدار التشريع تحقق اليقين القانوني.
ولتأكيد مبدأ سيادة القانون، نجد أن عهد الملك عبدالله رحمه الله شمل تطويراً شاملاً للمرفق القضائي، وبالأخص التشريعات القضائية في نظامي القضاء وديوان المظالم، واللذان أكدا على استقلال القضاء والقضاة، وألا سلطان عليهم إلا الأحكام الشرعية والأنظمة المرعية، وهو ما يحقق المعيار الثاني المتمثل في وجود سلطة قضائية مستقلة، وقضاء مستقل عن النفوذ السياسي، كما تم إنشاء هيئة حقوق الإنسان للعناية بحقوق الإنسان، وتعزيزها، وفقاً لمعايير حقوق الإنسان الدولية في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية. وهو ما يحقق معيار احترام حقوق الإنسان، وذلك من خلال الجهود التي تبذلها الهيئة من خلال الإنضمام للاتفاقيات الدولية ذات الصلة، واقتراح التعديلات اللازمة على التشريعات والأنظمة الوطنية بما يحقق التزام المملكة بحقوق الإنسان في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية، والأنظمة المرعية.
وفي عهد الملك سلمان حفظه الله، وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي محمد بن سلمان حفظه الله لحظنا مراجعة شاملة للتشريعات والأنظمة بما يحقق عدم التمييز والمساواة في جميع الفرص الوظيفية، والمعيشية، وأحكام النظام، ولهذا لمسنا تعديلات عديدة لأنظمة الخدمة المدنية، والعمل، وإصدار لنظام الأحوال الشخصية، وجميعها تستهدف عدم التمييز والمساواة أمام الخطاب والتكليف للنص القانوني.
تاريخنا المجيد زاخر بالدلائل والأمثلة لتأكيد تحقيق هذا المبدأ في نظامنا القانوني، ولعلي أختم هذا المقال بما ذكره خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان-حفظه الله- في لقائه مع كبار المسؤولين والمهتمين بمكافحة الفساد ١٤٣٦ه “يستطيع أي مواطن أن يرفع دعوى على الملك أو ولي العهد أو أي أفراد من أفراد الأسرة” للتأكيد على ألا شخص فوق سلطة القانون مهما كانت شخصيته الوظيفية أو الاجتماعية، وللتأكيد على تحقيق مبدأ سيادة القانون بما يتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية، والأنظمة المرعية ذات الصلة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال