3666 144 055
[email protected]
بادئ ذي بدء، قد يكون من المهم كتمهيد: توضيح مبدأ السياسات التشريعية من خلال هرمها المنبثق منها، وهي السياسة العامة، والتي تسمى بالـ (Public Policy)، وهي أي السياسة العامة كمفهوم يُعتبر حديثٌ نسبياً، إذ بشكل مبسط يتكون من مبادئ توجيهية واضحة للعمل، وبمثابة دليل لاتخاذ القرارات الصحيحة المتوافقة والمتجانسة، وسبيل لتحقيق النتائج المرجوة، بما يسعى لإدارة المشكلات الحالية والمستقبلية، وبما يحقق المصلحة العامة للحكومة أو الجهة الإدارية العامة أو حتى الجهات الخاصة. وتوضيحها بهذا المفهوم هو لتمييزها عن مصطلحات إدارية أخرى، مثل “أهداف”، أو “برامج”، أو “قرارات”، أو “قوانين” أو “استراتيجيات”…إلخ. وقد أدت عدة عوامل لنشأة السياسة العامة، منها: اهتمام البشر بوضع التصورات والخطط والبرامج لمعالجة ما يمكن أن يواجهوا من مصاعب؛ إذ سعت المجتمعات لتطوير نزعتها باتجاه البقاء والرفاهية، ومن هنا كانت الحاجة التي أطلقت العنان للتفكير بوضع الأسس الضرورية لتنظيم احتياجاتها وسبل تأمينها. واهتم الإسلام بالشؤون العامة؛ فجاء بأرقى القيم والدعامات التي تقوم عليها السياسة العامة المتمثلة بالعدل، والإخاء، والكفاءة، والأمانة، وغيرها من القيم والإسهامات في مجال تطوير الإدارة. ويُمكننا أن نصف السياسة العامة بأنها عادةً تتكون من مجموعة من الخصائص تميزها وتحدد معالمها الأساسية، لعل أهمها أن تكون شاملة، وعامة، وهدفها تحقيق مصلحة عامة، واقعية وقابلة للتنفيذ، متوازنة، ثابتة نسبيًا مع الحفاظ على ميزتها في تكيفها مع التطور والتحديث، منسجمة مع السياسات العامة الأخرى، ومرتبطة غالبًا بالأجهزة الحكومية في صناعتها وإنفاذها.
وقد استمرت العناية بالسياسة العامة وتحليلها في الغرب بداية السبعينيات، وبالتحديد داخل الولايات المتحدة، بسبب تفاقم المشكلات الاجتماعية كمشاكل السود والبيض مثلاً، فظهرت الحاجة إلى تحليل هذه المشكلات ومحاولة صياغة السياسات التي تعالجها، الأمر الذي نتج عنه تزايد الاهتمام بدراسات السياسة العامة من خلال مراكز البحوث والفكر Think Tank. وكثيراً ما قام راسمو ومحللو السياسة العامة بصياغة سياسات ومواقف دولهم تجاه العديد من القضايا الداخلية والخارجية، كمشكلات التضخم ومشاكل التجارة الدولية وغيرها. وتنامت أهمية السياسة العامة في القرن الحادي والعشرين، والذي يتسم بتطوره المذهل والسريع، وتزاحم المتغيرات البيئية والتقنية والاجتماعية والعلمية والاقتصادية وغيرها، وارتفاع مستويات التفاعل بين مؤسسات ومنظمات القطاعين العام والخاص والقطاع الثالث، وتزايد أدوار المنظمات الدولية وغير الحكومية؛ الأمر الذي تطلب دراسة ورسم السياسة العامة وفق متغيرات العصر هذه، للخروج بصياغة أولوية للسياسة العامة وتحديد مساراتها. ولأهمية السياسة العامة، فقد نُص على اعتبارها في المملكة العربية السعودية في أهم الأنظمة، وهو النظام الأساسي للحكم، الصادر بالأمر الملكي رقم أ/90 وتاريخ 27/8/1412ه. ففي المادة الخامسة والخمسون (يقوم الملك بسياسة الأمة سياسة شرعية طبقا لأحكام الإسلام، ويشرف على تطبيق الشريعة الإسلامية، والأنظمة، والسياسة العامة للدولة، وحماية البلاد والدفاع عنها.) وفي المادة السابعة والخمسون (يعتبر نواب رئيس مجلس الوزراء، والوزراء الأعضاء بمجلس الوزراء، مسئولين بالتضامن أمام الملك عن تطبيق الشريعة الإسلامية، والأنظمة، والسياسة العامة للدولة.)
وحين النظر في أنواع السياسة العامة، نجد أن منها سياسات عُليا في إطار أهداف الدولة العامة، كالسياسات الهادفة إلى رفـع كفـاءة الخـدمات والمنتجـات المحلية وزيادة إمكاناتهـا، وتوسيع الاستفادة من الثروات المتاحة، وترشيد الاستهلاك. وقد نص النظام الأساسي للحكم على عدة أمثلة لذلك، فأشارت المادة الثامنة إلى أنه (يقوم الحكم في المملكة العربية السعودية على أساس العدل والشورى والمساواة، وفق الشريعة الإسلامية.) وقررت المادة التاسعة والعشرون أنه (ترعى الدولة العلوم والآداب والثقافة، وتعنى بتشجيع البحث العلمي، وتصون التراث الإسلامي والعربي، وتسهم في الحضارة العربية والإسلامية والإنسانية.) وأسست المادة الثمانون على أنه (تتم مراقبة الأجهزة الحكومية، والتأكد من حسن الأداء الإداري، وتطبيق الأنظمة. ويتم التحقيق في المخالفات المالية والإدارية، ويرفع تقرير سنوي عن ذلك إلى رئيس مجلس الوزراء.). والنوع الآخر هي سياسات جزئية متعلقة بجهاز إداري معين أو بتخصص معين، كسياســات الإسكان من قبل وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان، والتي تهـدف إلى رفع نسبة تملك المواطنين للإسكان، وتـــوفير الاحتياجـات السكنية لهم وما يتصـل بـهـا مـن المرافـق والخـدمات الضرورية. وكمثل سياسـات البيئـة من قبل وزارة البيئة والمياه والزراعة، والتي تهـدف إلى حماية البيئـة مـن التلوث ومختلف الاعتداءات خاصـة تلوث الهواء والمـاء والتربة، وذلك بوضـع ضوابط معينة. وكالسياسات المتخصصة بالتشريعات والأنظمة، فالسياسات التشريعية هي مسلك أو خطة من الجهة المختصة بالتشريع نحو تطبيق وترجمة السياسة العامة العليا بمجالاتها المتنوعة، كالسياسية والاقتصادية والاجتماعية، من خلال التشريعات التي تضعها، حيث إنه يصعب عادةً تطبيق السياسة العامة العليا دون وضعها في تشريع تتميز قواعده القانونية بخصائص تجعل تطبيق هذه السياسة ملزماً. ومقصد السياسة التشريعية الجوهري هو تحقيق المصلحة أو رفع المفسدة، كما نص النظام الأساسي للحكم في مادته السابعة والستون على أنه (تختص السلطة التنظيمية بوضع الأنظمة واللوائح، فيما يحقق المصلحة، أو يرفع المفسدة في شئون الدولة، وفقا لقواعد الشريعة الإسلامية.)
إذن، تعرفنا الآن على مفهوم السياسة العامة ومبدئها وخصائصها، والتي تتفرع عنها السياسة التشريعية، وفي المقال القادم سيكون هناك تفصيلٌ أكثر بخصوص السياسة التشريعية وتطبيقاتها.
© 2020 جميع حقوق النشر محفوظة لـ صحيفة مال
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734