توريث الوظائف

لم يكن الحظ حليفي أيضاً، تمتم زيد بهذه الكلمات وهو يرد بإحباط على سؤال أخيه الأكبر عبيد، الذي كان بانتظاره بعد العودة من أكبر وأغرب حدث “معرض الوظائف”، كان عبيد قلقاً فعلاً على أخيه الأصغر العاطل التائه، الذي غادر المنزل متجهاً نحو المعرض صباحاً ولكنه لم يعد الا في أخر ساعات من اليوم!!.

لم يصل استيعاب عبيد للقناعة في تلك اللحظة، فهو مازال يحاول ان يتخيل ويستنتج ما الذي يرمي اليه منظم هذه الفعالية، كل الخيالات ذهبت بأفكار عبيد إلى نقطة تكدس آلاف السير الذاتية في حاويات النفايات خارج ذلك الفندق المنيف. وهي النهاية الطبيعية لكل فعالية توظيف غير محددة المعالم كهذه.

استيقظ عبيد بنشاط وحيوية كعادته، ومازالت قصة اخوه الأصغر زيد ومعرض الوظائف تدور في ذهنه، حتى وصل إلى الشركة التي يعمل بها دون أن يحس بالوقت والمسافة رغم ازدحام الطريق تحت صيف الرياض، وعندما دخل لمح الشركة الرئيسي لمح في نهاية الرواق موظفاً اسيوياً منحني الظهر تعدى عمره الستين جالساً على مكتبه الصغير، قضب عبيد حاجبيه وهو يتذكر معلومات ذاك الرجل “كومار” الذي نال ثقة مؤسس الشركة قبل ثلاثين عاماً، وأصبح مديراً مالياً للشركة رغم ان مؤهلاته لا تصل به إلى كاتب حسابات في بلاده او في اي بلد خليجي اخر. وبطبيعة الحال استقطب كومار عشرات الموظفين من دولته الاسيوية دون أن يشغل باله بتعيين مواطن سعودي من المتقدمين له. وما يميز كومار وفريقه هو تنفيذهم للأوامر اياً كانت، حتى لو كانت مخالفة لأنظمة البنك المركزي وهيئة سوق المال، أو حتى للمنطق والعقل، والنخوة والدين أيضاً.

تذكر عبيد ان تخصص أخاه زيد بالجامعة في الإدارة المالية، ولكن لم يتمكن عبيد من تعيينه بسبب سياسة عرفية تقضي بعدم تعيين الأخوة او الأقرباء بنفس الشركة خوفاً من المجاملات التي قد تصل إلى الفساد الإداري والمالي. وحينها تذكر عبيد أمراً هاماً، فقد شاهد احد المحاسبين الجدد في إحدى طرقات الشركة، بعد العودة من اجازة عيد الفطر الماضي، يقوم بتقبيل رأس كومار بطريقة فيها احترام الابن لوالده!!.

تحرك عبيد سريعاً نحو غرفة ملفات الموظفين، وامسك اخر ملفات تم اصدارها، وذهب بكل حذر إلى مكتبه وأغلق الباب خلفه، وكانت المفاجأة عندما فتح الملفات، لقد اكتشف عبيد ان أربعة من الموظفين بالإدارة المالية هم أبناء وأبناء أخ للمدير المالي المحنك كومار، ولكن جميعهم يحمل اسماءً مركبة وكأنها اسم اول واسم أب، مما كان مضللاً في حين استقطابهم، كما أن التدريب والارشاد الذي حصلوا عليه من قريبهم، كان يمتد إلى ساعات متأخرة من الليل لتأهيلهم ومنحهم الكيفية know how على طبق من ذهب رغبة من كومار في استدامة بقائهم بترشيح الأفضل من بينهم لخلافته في منصب المدير المالي.

وعندما نقارن ما حصل عليه “أقارب كومار” بما يحصل عليه المواطن السعودي عند تعيينه في برامج التدريب المنتهي بالتوظيف او حتى فترة التأهيل المبدئية، فإن السعودي لا يحصل الا على تدريب نظري وقليلاً من العملي فقط والذي قد يكون ممنهجاً للايقاع به، اما معرفة الكيفية والتفاصيل الدقيقة والأخطاء المتوقعة وكيفية الخروج منها، والحماية الكاملة حتى وإن أخطأ، فهذه ميزة لا تتوفر الا لأقارب كومار ومن هم على شاكلتهم. وبعد أن خرج عبيد اخذ ينظر للأسماء على الأبواب المغلقة في الممر الطويل وهو يتذكر “ابوشهاب” مدير التسويق الذي استقطب أبناء اخته السبعة للعمل بفروع الشركة كمسوقين ناجحين بعد أن منحهم أسرار الصنعة، والزميل الأخر مدير المستودعات “عطوة” الذي استقطب العشرات من أبناء جلدته لإدارة كافة مستودعات الشركة في جميع أنحاء المملكة، وحجب دخول اي جنسية أخرى لهذه الإدارة، بما فيهم السعوديين.

لقد أدرك عبيد الان ان الشركة التي يدير هو شخصياً الموارد البشرية بها، ماهي إلا مرتع للوبيهات اجنبية تحكم آليات اتخاذ القرار حيال التوظيف بكافة الأقسام، فهو، اي عبيد، لا يمكنه ان يعين او يورث وظيفته او ينقل خبراته لأحد من أقاربه او حتى اي سعودي اخر، حيث اكتشف انه لا يوجد بالشركة الا فتيات استقبال وسكرتارية وعدد من حراس الأمن وثلة من المعقبين والمحصلين لاتزيد رواتب افضلهم حظاً عن خمسة آلاف ريال، بينما يستمتع كومار وابوشهاب وعطوة واقاربهم برواتب فلكية وسيارات وتذاكر سفر بمبالغ فلكية، ومع تزاحم كل هذه الافكار لم يحس عبيد بنفسه الا وهو خارج من المكتب إلى سيارته متجهاً للمنزل ودخل مهرولاً إلى غرفة نوم أخاه الذي كان جالساً على الأرض متألماً من نتائج المعرض الأخير المحبطة، وامسك عبيد بكتف زيد بقوة قائلاً: قم يا أخي معي، لديك مقابلة شخصية عاجلة في شركتي ذاتها، وستأخذ فرصتك ومكانك. ارفع راسك يازيد، فأنت سعودي، وتستحق.