الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
اللغة تجري في الشرايين والأوردة لا على الألسنة فحسب، فهي عنصر أساسي من عناصر الهوية الثقافية للفرد والمجتمع، تمتزج فيها الأنا المعبرة عن الذات المفردة كما تختلط فيها الأنا الجمعية الشعبية بكل ما تحمله من إرث ثقافي وذاكرة مروية أو مكتوبة. وهكذا نرى أن المتحدث بالعربية يحمل في نفسه بوعي أو بلا وعي خليطاً من حكمة أبي العلاء، وغرور المتنبي، وجرأة نزار، وشفافية القصيبي، وإبداع الثبيتي، وفخر خلف ابن هذال، وفلسفة سعد ابن جدلان، ويتمثّل بالأمثال الفصيحة والشعبية في كل موقف من مواقف الحياة. وإنما يظن بعضهم أن وظيفة اللغة التواصل فحسب، لأنها أظهر الوظائف وأشهرها، لكن اللغة أيضاً تمس التفكير والتذكر، وتؤثر في التعبير عن الحاجات والأفكار، ونقل المعارف، وتشحذ التخيّل والإبداع…. وإن مما تؤثر فيه اللغة كذلك، التبادلُ التجاري والاستثمار باعتبارها أهمّ تشكيلات الهوية والقوة المعنوية للأمم.
لقد تزايدت القيمة السوقية للخدمات اللغوية بكل أنواعها مؤخراً حتى تضاعفت في مدة قصيرة، وتشير التوقعات الكثيرة إلى استمرار هذا الصعود في المدى المتوسط والبعيد. إذ بلغت قيمة السوق اللغوي في عام 2009 حسب عدد من الإحصاءات 23.5 مليار دولار أميركي، وظلت القيمة ترتفع حتى تضاعفت خلال عشر سنوات فقط لتصل في العام 2019 إلى ما يقارب خمسين (49,6) مليار دولار، وترشح الإحصاءات ذاتها أنها تزايدت حتى قاربت الستين مليار دولار بحلول هذا العام 2022، بينما تقدره إحصاءات أخرى بأكثر من اثنين وستين (62.6) مليار دولار أمريكي، مصحوبة بتوقعات لتقييم حجم السوق بأكثر من 96 مليار دولار أمريكي في عام 2027، بمعدل نمو سنوي مقداره 7.5٪. كذلك، تقدر إحصاءات مركز HolonIQ أن القيمة السوقية لتعليم اللغات بنوعيه التقليدي والإلكتروني مرشحة للوصول إلى مئة وخمسة عشر مليار دولار بحلول عام 2025.
يتبادل المنافع في هذه السوق الضخمة مستويات مختلفة فالأفراد والشركات والحكومات كلهم يقدمون ويستفيدون من هذه الخدمات التي تستلزم ضخ الموارد المالية والبشرية على السواء، ويدخل في هذه السوق كل ما يتقاطع مع الخدمات اللغوية ومن ذلك تعليم اللغات بكل مستوياته وأنواعه، والترجمة بأنواعها، والبرمجة الحاسوبية وغير ذلك من الخدمات التي تتداخل مع قطاعات كثيرة كالقطاع الطبي والقانوني والاتصالات وتقنية المعلومات وغيرها. غير أن أبرز توجهات هذه السوق هو تعليم اللغات، فقد ساعدت صناعة السفر والسياحة من جهة إلى جانب الطلبات المتزايدة للدورات التدريبية عبر الإنترنت من جهة أخرى على تشكّل عوامل حرّكت سوق تعلم اللغة الإلكتروني عالمياً. هذا بالإضافة إلى التحفيز المكثّف حول التعليم ثنائي اللغة ومتعدد اللغات سواء للطلاب أو العاملين. وتقدر الإحصاءات أن القيمة السوقية لتعليم اللغات ستتضاعف لأسباب كثيرة منها جائحة كورونا التي رفعت أهمية وضع التعليم عن بعد ودفعت الكثير من الحكومات إلى الاستثمار في مجال الاتصالات وتقنية المعلومات.
وإذا كان لنا أن نحصي متعلمي اللغات حول العالم، فثمة ما يقرب من ملياري متعلم لغة ثانية يدفعهم العمل تارة والمتعة تارة أخرى إلى تعلم لغات مختلفة من بينها العربية، لكن غالبيتهم يركزون على تعلم الإنجليزية. ساعد على هذا النمو الكبير في عدد المتعلمين أمران: أولهما التحوّل قسرياً في ظل جائحة كورونا إلى التعلم الإلكتروني، وثانيهما سهولة التعلم الذي وفرته الوسائل التقنية عبر منصات وتطبيقات تعليم اللغات مثل Busuu و Duolingo و Rosetta stone و Babbel و Speexx، وهي تطبيقات تعلم لغات عالمية مختلفة كالإنجليزية والعربية والإسبانية والفرنسية والإيطالية والصينية والهندية وغيرها. وليس من الغريب ورود اللغة العربية ضمن هذه القائمة التي يبحث عنها متعلمو اللغات فقد أخذ حجم اللغة العربية يكبر أيضاً ضمن دائرة اهتمام هذه التطبيقات منذ 2015، وتحضر الإشارة والإشادة هنا بالجهود الكبيرة الريادية التي قام بها الأستاذ محمد الشارخ وشركة صخر منذ الثمانينيات الميلادية حتى إنتاج تطبيقات التدقيق النحوي والإملائي (صححلي) والمعجم المعاصر مؤخراً. وقد أشار تقرير للمجلس البريطاني إلى أن الملايين من متعلمي اللغات في جميع أنحاء العالم ينجذبون إلى تعلم اللغة العربية، وهو ما يجعلها تأتي في المرتبة الثانية على مستوى الأهمية في المملكة المتحدة، وتحتل إحدى أهم اللغات الأجنبية وأكثرها أهمية في القرن الحادي والعشرين على مستوى العالم.
ولم تكن المملكة العربية السعودية بمنأى عن هذا الزخم، بل كانت من محفّزاته إذ شجعت وزارة الثقافة السعودية على هذا التوجهات، وأصبحت تضع المناسبات تلو الأخرى، وتشجع المبادرات تلو غيرها للحفاظ على اللهجات السعودية واللغة العربية واللغات الجزيرية، وأنشأت هيئات تهتم بالمحافظة على التراث اللغوي المحلي والثقافة السعودية باختلاف أطيافها مثل هيئة الأدب والنشر والترجمة، مما ساعد على توطين المعرفة وتعريب العلوم وتصدير الثقافة السعودية.
يأتي هذا الاهتمام مدفوعاً بقوّة السياسة اللغوية السعودية لهذه البلاد التي أسسها الوعي اللغوي المستنير على مستوى القيادات التي وضعت هذا الوعي اللغوي في رؤية المملكة 2030 في شكل مبادرات ومشروعات وخطط استراتيجية لغوية تحت تخطيط ورعاية مباشرة من صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان. وعلى سبيل المثال فقط فمن تلك المبادرات التي حفلت بها رؤية 2030 برنامج عام الخط العربي 2020، وبرنامج العناية باللغة العربية، كما ورد في برامج الرؤية هدف نشر وتعزيز اللغة العربية، وهدف تطوير اللغة العربية ضمن برنامج تنمية القدرات البشرية. أما تاج تلك المبادرات والمشروعات فهو إنشاء مجْمَع الملك سلمان العالمي للغة العربية الذي يفاخر به كل عربي كما يفخر به كل سعودي.
كل ذلك، ساهم في وصول السوق اللغوية المحلية إلى حالة ملموسة من النضج تشمل مستويات متعددة وأطيافاً كثيرة وخدمات غنية. ويدعم ذلك أيضاً وجود التشريعات الحكومية والمظلات الرسمية ممثلة في وزارات وهيئات وبرامج ومؤشرات ومجالس ومراكز حكومية تؤمن بأهمية اللغة وتأثيرها غيّرتْ شكل السوق المبعثر والصغير ليصبح سوقاً أكبر وأكثر تنظيماً. من جهة أخرى ساهم هذا النضج في الانتقال من الأعمال الفردية إلى أعمال ريادية مؤسسية، فبدلا من المكاتب الفردية التي كانت تهتم بكتابة النصوص أو المراجعات اللغوية أو الترجمة، أصبحت هناك شركات متخصصة في أعمال محددة تستقطب لغويين متخصصين في تلك المجالات، وتهتم نوعيا وكمياً بمخرجاتها. إذ دخلت اللغة في ريادة الأعمال فظهرت مجموعة من الشركات مثل نص وهاد وفاز وغيرها من الشركات الريادية التي تنتظم أعمالها في مسارات متعددة مثل كتابة المحتوى المتخصص، والاستشارات اللغوية، والتدريب والتعليم اللغوي، والإعلام اللغوي، والترجمة، وتقنيات اللغات والتطبيقات اللغوية سواء كانت تعليمية أو خدمية، وتوظف المتخصصين في هذه الميادين، فأصبح السوق يحتوي شركات متخصصة وعملاً مؤسسياً منتجاً ومعتمداً، إلى جانب وجود المكاتب الصغرى والأفراد المستقلين.
إن القادم كما نرى في الواقع وكما تفيد التوقعات التي أشرنا إليها يحمل الكثير من الفرص في سوق لغوية تنضج أكثر فأكثر وتكبر يوماً بعد آخر محلياً وعالمياً وتتنوع بطيف واسع وجميل من الخدمات اللغوية المختلفة التي تتجه نحو التخصيص والمحلية والتوطين والتقنية وتصدير الثقافة أكثر من أي شيء آخر. ولذا فإن وقت المشروعات والمبادرات اللغوية قد حان الآن لتتكامل منظومة السوق اللغوية وينضج السوق المحلي أكثر بدعم جليّ من المملكة العربية السعودية ورؤيتها الثاقبة 2030.
يقول مارك روبسون رئيس اللغة الإنجليزية والاختبارات في المجلس البريطاني: “ربما تكون اللغة الإنجليزية هي أعظم الأصول المالية الدولية التي تملكها المملكة المتحدة وأقلها شهرة، فهي حجر الزاوية في هويتنا وهي التي تبقينا في أذهان مئات الملايين من الناس حول العالم، حتى وهم لا يتحدثون إلينا”. وإنه لحريٌّ باللغة العربية أن تكون أحد أهم الأصول المالية الدولية التي تمتلكها المملكة العربية السعودية فهي قِبلة المسلمين وهي واحدة من أهم الدول العربية ذات الثقل الدولي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال