الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
بالرغم من أن الاقتصاد يعتبر علم عقلاني، إلا أن يوجد فيها ما يسمى بالمعجزات. قبل ستين عام، بدأ الاقتصاديين يتكلموا عن “المعجزة اليابانية” والتي كانت نتيجة التطور الاقتصادي الياباني وتفوقهم في مجال الصناعة والتقنية، الآن يوجد المعجزة الصينية، وبرأيي المعجزة الأولى أفضل طريقة لتحليل مستقبل المعجزة الأخرى.
مثل اليابان في الستينات والسبعينات، الصين خلال الأربعين سنة الماضية حققت إنجازات اقتصادية كبرى. استطاعت الصين تطور اقتصادها لدرجة يعتقد عدد كبير من الخبراء أن الصين تستطيع التغلب على أمريكا بمقياس الناتج الاقتصادي (مثلما فعلت أمريكا مع الإمبراطورية البريطانية قبل مئة سنة) ومن ثم يصبح هذا القرن القرن الصيني.
لكن العجيب أن نفس المقولات هذه أخرجت من افواه الكثير من الخبراء أثناء صعود اليابان قبل ستين عام، وكما هو واضح الآن، المعجزة بعد مدة تتحول لواقع. ومثلما لم تستطيع اليابان أن تصبح هي سيدة الاقتصاد العالمي، أعتقد أن لن تستطيع ذلك الصين، وبالتالي القرن الحادي وعشرون لن يصبح قرناً صينياً.
لنبدأ مع بداية المعجزة الصينية. بعد عقود من الدمار الاقتصادي في عهد مؤسس الصين الحديثة، ماو، انتقل الحكم إلى القائد الجديد، دينج شياو، في نهاية السبعينات. خلال عهده بدأ الاقتصاد الصيني بالنمو المبهر. ففي عام 1979، كان اقتصاد الصين يبلغ فقط 180 مليار دولار، بينما آنذاك الاقتصاد الأمريكي كان 2.6 تريليون دولار، أي 15 ضعف الاقتصاد الصيني. وخلال الأربعين سنة الماضية، نما الاقتصاد الصيني بمعدل 12% سنوياً، بينما نما الاقتصاد الأمريكي بأقل من نصف المعدل الصيني، والآن الاقتصاد الصيني تقريباً 17.5 تريليون، والاقتصاد الأمريكي 23 تريليون، أي أصبح الاقتصاد الامريكي فقط أكبر بـ 0.3 ضعف.
فلو يستمر هذا النمط، ستجتاز الصين أمريكا خلال العشر سنين القادمة. لكن، هذه الأرقام جداً مشابهة للأرقام في مقارنة اليابان وأمريكا في القرن الماضي، لكن لم يحدث تفوق ياباني، وذلك لأن “الشجر لا تنموا حتى توصل القمر”. بمعنى آخر، صحيح أن لو استمرت الصين بنفس معدل النمو، ستجتاز الولايات المتحدة، لكن جداً مستبعد يحدث ذلك.
لابد أن نضع نمو الصين خلال الأربعين سنة الماضية في سياقه. صحيح كان معدل نمو الصين ضعف معدل نمو أمريكا، لكن هذا كان لأن الصين بدأت باقتصاد جداً صغير وسيء بسبب عقود من سوء الإدارة من قبل القائد ماو. خلال اخر خمس سنوات، كانت ليبيا من أفضل الدول من ناحية النمو الاقتصادي، ولكن ذلك بسبب الدمار الشامل الذي حصل قبله، فالنظر إلى معدل نمو من قاعدة صغيرة ليس طريقة صائبة لبناء توقع عن النمو بالمستقبل. لو ننظر إلى القيمة المطلقة للنمو الاقتصادي بدل من المعدل، أمريكا رفعت قدرتها بالإنتاج بمقدار 20 تريليون دولار، والصين فقط رفعته بمقدار 17.5 تريليون، أي امريكا نمت بمقدار 16% أكثر خلال نفس الفترة. فلذلك، أي حديث عن تفوق الصين مبني فقط على معدل النمو غير لائق، فمن المستحيل أن تستمر الصين بنمو 11% سنوياً مثل ما فعلت خلال العقود السابقة، وكلما كبر اقتصادها، كلما كان من الأصعب إيجاد طرق لرفع النسبة بشكل أعلى.
حتى لو نفترض أن الصين على المدى الطويل تستطيع التفوق على أمريكا بمعدل النمو (مثلاً كان معدل نموها أعلى ب50 نقطة بشكل متواصل)، هذا يعني أن لن تجتاز الصين أمريكا كأكبر اقتصاد بالعالم إلا في سنة 2075، أي بعد مرور الغالبية العظمى من القرن، على عكس القرن العشرون، حيث تفوقت أمريكا على بريطانيا بعد فقط 17 سنة من بداية القرن. لكن هذا فقط بافتراض أن الصين تستطيع منافسة أمريكا في معدل النمو خلال العقود القادمة، وبرأيي هذا افتراض فرصة صحته قليلة.
لماذا لن تستطيع الصين مواصلة نفس معدل النمو؟ أولاً، معظم النمو الذي شهدته الصين حتى الآن كان ما يسمى بنمو اللاحقي (Catchup Growth)، ويقصد بهذا نمو اقتصادي مبني على مجرد تصحيح الوضع الراهن ونسخ التقنيات والمؤسسات التجارية في الدول المتطورة. فهذا النوع من النمو أسهل من نمو الدول المتطورة، لأن ما عليك سوى تقليدها بدل من الاستثمار الهائل في الإبداع التقني والإداري. فأمريكا لكي تنموا اقتصادياً، احتاجت أن تخترع هيكل تنظيمي لقطاع الاستثمار (مثلاً قطاع الاستثمار الجريء) والصين فقط استوردت هذه المنظومة. لذلك، كلما قاربت الصين حجم اقتصادها للولايات المتحدة، كلما احتاجت الصين أن تكون رائدة في مجال البحث والتطوير، وكما شاهدنا مع فشل الصين بتطوير لقاح فعال، او حتى تطوير رقائق إلكترونية متقدمة، فالصين لم تستطيع خلال كل هذه الصين أن تبني قدرات عالية في خلق أنواع جديدة من الإنتاج الاقتصادي بدل من فقط استيراد التقنية الغربية نسخها (سوف أفصل الأسباب لذلك في الجزء الثالث لهذه السلسلة من المقالات).
ثانياً، الكثير من التطور الاقتصادي الصيني الذي شاهدناه أتى من الاستثمار الأجنبي المباشر في الصين (FDI) وذلك في المناطق الحرة مثل شانغهاي وشنزينغ. فبعد تحسن علاقات الغرب مع الصين في السبعينات، فتحت الصين مناطق حرة لتحفيز الاستثمار الأجنبي المباشر، والذي لم يكن فقط لجلب الرأسمال، لكن لجلب أيضاً المعرفة والخبرة. لكن كما هو واضح الآن، لم يعد الغرب متقبل بإعطاء الصين إما رأسمال أو معرفة، فقبل بضع أسابيع أعلنت أمريكا عن مجموعة حازمة من القرارات تمنع الشركات الأمريكية من العمل في الصين على أي شأن يتعلق التقنيات المتقدمة (خاصةً الرقائق الإلكترونية).
وكما ذكرت في مقالتي السابقة، حتى من دون تدخل الحكومات الغربية، كثير من الشركات العالمية بدأت تزيح نفسها من الصين عن طريق نقل مصانعها إلى الهند أو دول آسيوية أخرى مثل فيتنام، ولذلك بسبب سياسات الصين الخارجية والداخلية التي تتعارض تماماً مع سياساتها في عهد القائد دينج. بالتالي، إحدى أهم محركات نمو الصين السابق لم يعد موجود، وهذا سيكون له أثر على قدرة الصين في استمرار نموها.
ثالثاً، إحدى أهم اللحظات في صعود الصين في الاقتصاد العالمي كان في عام 2001 حينما انضمت إلى منظمة التجارة العالمية (بمساعدة الولايات المتحدة آنذاك). فبعده قفز معدل نمو الصين من 8% إلى 14% خلال فقط 6 أعوام. تقبل العالم للتجارة مع الصين كان له أثر عظيم على قدرة الصين في تطوير اقتصادها عن طريق نمو صادراتها، لكن موخراً بدأت الكثير من دول العالم تعي أن اعتمادها المفرط على دولة واحدة لوارداتها، حتى لو كانت تنتج أرخص المنتجات، ليس مستدام ولابد من توزيع سلسلة الإمدادات، بالإضافة إلى تبعات سياسة الصين الخارجية، بحيث أثبتت الصين أنها مستعدة توقف الصادرات للدول التي تثير غضب بكين. كل هذه العوامل أدت إلى تقليل حصة الصين من التجارة العالمية، وحالياً تشير الأرقام أن نسبة مساهمة الصين في التجارة العالمية ستقل بمعدلات عالية جداً مقارنة بما كانت عليه خلال الأعوام السابقة.
مسيرة الصين الاقتصادية خلال العشرين سنة القادمة أهم شأن اقتصادي عالمي حالياً، في هذا الجزء أردت فقط اتحدث بشكل عام عن الأسباب الاقتصادية المباشرة، وفي الجزء الثاني الذي سينشر عما قريب، سأتحدث عن بعض العوامل الاقتصادية الغير مباشرة لنمو الصين (مثل الديموغرافية والحوكمة) وفي الجزء الثالث سأتحدث عن التغييرات الغير اقتصادية التي من شأنها تدمير قدرة الصين على مواكب الولايات المتحدة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال