الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
هذا التساؤل وجدته لدى كثير ممن قابلتهم في مجال العمل، وخصوصاً عند مناقشة المشاريع الجديدة والتوجهات المستقبلية لصندوق الاستثمارات العامة. والبعض يقول بما أن الصندوق حكومي؛ فالأفضل أن تقوم الحكومة بتطوير التشريعات والأنظمة وفق الخطط التي تسير عليها حتى تحقق ما تريد الوصول إليه في المستقبل بما يتوافق مع رؤية ٢٠٣٠، بدل أن تقوم بمنافسة القطاع الخاص بإنشاء شركات حكومية ومشاريع جديدة مملوكة لها. والحقيقة أن هذا التساؤل يبدو صحيحاً ومنطقياً من وجهة نظر القطاع الخاص بعقليته القديمة وطريقة عمله السابقة وفق مبدأ “الله لا يغير علينا”.
لا يخفى على أحد ما قامت بها الحكومة في السنوات الأخيرة؛ حيث عملت تغييرات كبيرة وجذرية سواءً في التشريعات والأنظمة وطرق العمل أو حتى البرامج والمشاريع المبنية على خطط واضحة ومدروسة. كما عملت الحكومة على إعادة هيكلة شاملة لجميع الأجهزة الحكومية وشبه الحكومية وحتى القطاعات الاقتصادية المتنوعة بما يتوافق مع الخطط والبرامج المستهدفة في رؤية ٢٠٣٠. وما حدث يتجاوز إمكانيات وقدرة القطاع الخاص على سرعة فهمه والتأقلم معه، بل أن بعض القطاعات الاقتصادية في السوق أصبحت متخلفة بالنسبة لما تطمح وتسعى له الحكومة. لذا حتى يتم تنفيذ هذه الأنظمة والتشريعات الجديدة خصوصاً المتعلقة بالقطاع الخاص، وحتى يستوعب متطلبات الحكومة ويتكيف معها؛ يحتاج إلى إعادة تنظيم وعمل تغيرات كبيرة والتي تحتاج وقت طويل لإنجازها بالشكل المطلوب. وفي العادة مع عمليات إعادة التنظيم الحكومية تخرج فرص جديدة في السوق وتموت أخرى لم تستطع التأقلم معها.
ومن التحولات الهيكلية والتغيرات الجذرية التي قامت بها الحكومة هي في الصندوق السيادي الخاص بها وهو “صندوق الاستثمارات العامة”، حيث شمل ذلك استراتيجيته وطريقة عمله ونوعية المشاريع التي يستثمر فيها. حيث كان الصندوق في السابق يعمل بطريقة استثمارية معينة ربما تكون مقبولة ومناسبة في وقتها وكانت تحقق المطلوب منه. لكن بعد التغييرات التي أحدثتها الحكومة في هيكلتها بشكل كامل؛ استلزم معها تطوير جذري وشامل للصندوق ليستطيع أن يتواكب معها ويحقق الطموحات والمستهدفات المطلوبة منه.
لذا من أجل تسريع عملية فهم واستيعاب القطاع الخاص لتوجهات الحكومة الجديدة، ولسهولة تطبيق الأنظمة والتشريعات والإجراءات الجديدة فيه حتى يستطيع أن يتواكب معها؛ تقوم الحكومة بتوجيه الصندوق بتأسيس شركات ومشاريع جديدة في القطاع الاقتصادي المراد تطويره. والحقيقية أن معظم القطاعات الاقتصادية في السوق تعتبر تقليدية وتحتاج إلى تنمية وتطوير؛ ربما بخلاف القطاع النفطي والقطاع المالي. لذا الفكرة من إنشاء الشركة أو المشروع الجديد التابع للصندوق؛ أشبه ما تكون بنموذج أو مثال متجسد في أرض الواقع لما يحقق رؤية وطموحات الحكومة في القطاع المستهدف. حيث أن ذلك يسهل على الشركات العاملة في القطاع فهم واستيعاب تلك الرؤية وممتثلاً بالأنظمة والتشريعات والإجراءات الجديدة كنموذج واقعي، حتى يكون محفز لهم للسعي في الوصول إلى مستواه. كما سيؤدي ذلك إلى الرفع من سقف طموحات ومتطلبات عملاء القطاع في طلب الخدمات والمنتجات والتي من المفترض أن تكون مثل مخرجات الشركة أو المشروع التابع للصندوق. وبهذا فالصندوق يستهدف الرفع من كفاءة وجاذبية القطاع الاقتصادي الذي يعمل فيه و الرفع من جودة المنتجات والخدمات المقدمة وزيادة جاذبية القطاع بدخول شركات جديدة فيه سواءً كانت محلية أو عالمية، بل حتى الرفع من مستوى جودة التوظيف وكفاءة العاملين في القطاع وزيادة مهاراتهم وقدراتهم.
ولنأخذ مثالاً على ذلك في القطاع العقاري، حيث رأت الحكومة ضعف القطاع وأن هناك عدد قليل من الشركات العقارية الجيدة في القطاع خصوصاً في مجال التطوير العقاري. لذا مع وجود هذا الضعف في القطاع فلن يساعد الحكومة في تحقيق مستهدفاتها خصوصاً في القطاع السكني. لذا قامت بإعادة تطوير هيكلية شاملة لوزارة الإسكان وكذلك الأنظمة والتشريعات الخاصة بجميع أنشطة القطاع العقاري. وأطلقت الوزارة عدة برامج مختلفة ومشاريع في جميع أنحاء المملكة، كما قامت بتغيير طريقة عملها في تنفيذ المشاريع مع المقاولين والمطورين العقاريين. وكان تركيز الوزارة بالدرجة الأولى على الحلول والمنتجات السكنية التي تخدم عملائها من المواطنين وتضمن لهم طرق متعددة في تملك المسكن بحسب احتياج وقدرة كل عميل. وصحيح أن الوزارة نجحت في تحقيق بعض المستهدفات الخاصة بها، لكن منتجاتها السكنية موجة فقط للعملاء المستفيدين من الدعم السكني في تملك المسكن الأول. وذلك لن يغطي جميع شرائح العملاء من المواطنين وغيرهم ممن لديهم القدرة والرغبة في تملك مسكن في مشاريع جديدة حتى من غير مستفيدي الوزارة.
لذا استشعرت الحكومة هذا النقص؛ فوجهت صندوق الاستثمارات العامة بتأسيس شركة تطوير عقاري جديدة لمساندة وزارة الإسكان في مشاريعها ولتغطية جزء من النقص في المنتجات السكنية الأخرى في السوق العقاري والتي تخدم مستفيدي الوزارة وغيرهم من العملاء. فكان تأسيس “شركة روشن العقارية” كنموذج مثالي مميز في تطوير المشاريع العقارية السكنية الرائدة. حيث مع إطلاق روشن لمشروعها الأول “سدرة” في الرياض، تبين لنا جزء من استراتيجيتها وطريقة عملها المميزة في التطوير العقاري من جميع النواحي، بدءاً من التخطيط العمراني الجميل والغير التقليدي والذي حافظ على الأودية كما هي وتم استغلالها كمتنزه للساكنين، مروراً بتفاصيل كثيرة وعديدة رائعة يصعب حصرها وإلى الاهتمام بمستوى ونوعية العلاقات الاجتماعية بين الجيران في الحي. وهذا عمل استثنائي لم نعهده في السوق العقاري من قبل الشركات العاملة فيه. حيث كان بعض المطورين العقاريين عندما يريد أن يطور مخطط السكني، فإنه يأخذ بالحد الأدنى من الاشتراطات البلدية في كل شيء – أقل شيء من أي شيء لأي شيء – فيقوم بعمل البنية التحتية بأقل ما يمكن، وإذا كانت الأرض غير مستوية؛ قام بهدم التلال الجبلية ودفن بها الوديان حتى يساوي الأرض في مستوى واحد، ثم يطور مجموعة من المباني السكنية بجانب بعضها البعض مع علاقات ضعيفة بينها، وينفذ باقي الخدمات والطرق والشوارع بأقل ما يمكن.
على العموم لا يزال هناك ضعف في أنشطة أخرى في القطاع العقاري خصوصاً في إدارة الأملاك وإدارة المرافق وربما نرى صندوق الاستثمارات العامة في المستقبل يؤسس شركة جديدة لسد هذه الفجوة. ولو كان الصندوق يستهدف منافسة القطاع الخاص لما أعلن عن التخارج من الشركات التابعة له عندما تصل إلى مرحلة النضج والنمو في القطاع الذي تعمل به. والحقيقة يصعب على القطاع الخاص أن يقوم بالتنمية والتطوير لوحده، لذا لابد من مساندة الحكومة له، والعلاقة بينهما من المفترض أن تكون علاقة تكاملية لا تنافسية. ولو أخذنا مثال بالدول المجاورة لنا والتي كثيراً ما نضرب بها الأمثلة ونتغنى بما فيها من تطور وتقدم وتنمية؛ فإنها لم تحقق ما وصلت إليه بجهود القطاع الخاص ابتداءً، بل كانت عن طريق الشركات الحكومية والمشاريع النوعية المملوكة للحكومة، ثم قام القطاع الخاص بعد ذلك بمحاولة اللحاق بها ومجاراتها في طريقة عملها وربما التفوق عليها.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال