الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
نَقصِدُ بممارسة استغلال الأموال في هذا المقال، قيام المدير المالي لمحفظة أوراق مالية بالتداول لحساب مالك المحفظة؛ لكن ليس فيما يَخدِمُ مصلحة هذا المالك، بل بما يَخدِمُ مصلحة المدير الشخصية، حتى وإن كان هذا على حساب خسارة المحفظة لقيمتها.
تكمن المشكلة الحقيقية في مواجهة استغلال الأموال في أنَّها ممارسةٌ يقوم المدير بالتخطيط لها بهدوءٍ؛ فهي ليست من النوع القصدي الفوري المباشر، بل من النوع العَمدِي عن سابق الإصرار.
وما يَزِيدُ من غموض ممارسات استغلال الأموال هو استخدام المدراء الماليِّين للمؤسَّسات البنكية والمالية المرخَّصة للإدارة المالية لتحقيق مصالحهم الشخصية، فالمدراء هُم أشخاص محترفِين بالإدارة مالية، ومؤتَمَنِين على أموال عملائهم.
ومن هنا فإنَّ السوق المالية تُعتَبَر من أهم وأكثر الجهات المُستَهدَفَةِ لتنفيذ ممارسات استغلال الأموال هذه؛ والسبب أنَّ فيها بيعٌ وشراءٌ لا يتوقَّف للأوراق المالية المتداوَلة.
فعلى سبيل المثال، يقوم المدير المالي باستلام الأموال والأوراق المالية المُودَعَةِ في محفظة العميل، وبعد استعلام المدير عن هدف العميل من الاستثمار يبدأ بالتداول لحسابه عبر الشراء بالأموال المودعة والبيع للأوراق المحفوظة.
وهنا علينا التفريق بين إنشاء المستثمر لمحفظةٍ ماليةٍ يُدِيرُهَا مديرٌ ماليٌّ مُتخصِّصٌ، وبين الاستثمار في صندوقٍ استثماريٍّ يُدِيرُ أموالَهُ مدراءٌ ماليُّون خبراء أيضاً.
ففي حالة المحفظة المالية، تكون الأموال والأوراق المالية مملوكةً للمستثمر بشكلٍ كاملٍ، فيما يكون المدير مُؤتَمَنَاً على حِفظِهَا وإدارة عمليات التداول في هذه المحفظة، لذا ينشأ احتمال استغلال المدير لأموال عميله.
سواءً أكان هذا الاستغلال من شركة الإدارة المالية لأموال عملائِهَا، أم من المدير المالي الموظَّف في هذه الشركة لعملاء الشركة التي يَعمَلُ بها.
بينما في الصناديق الاستثمارية فتَختَلِفُ الرؤية؛ والسبب أنَّ المستثمر يَقومُ بدفع مبلغٍ من المال يُشكِّلُ جزءاً من رأس مال الصندوق، وهكذا تَدخُلُ أموال المستثمرين في ذمَّة الصندوق كشخصيةٍ اعتباريةٍ مُستقلَّةٍ عن المساهمين فيه.
لذا، فإنَّ المدير المالي للصندوق يقوم بتشغيل أموال الصندوق كلِّها، وليس أموالَ مُستثمرٍ بعَينِهِ، وهذا ما يَجعَلُ المدير تحت رقابةٍ مؤسسيةٍ صارمةٍ ومراجعةٍ ماليةٍ ومحاسبةٍ كما يَجرِي على نشاط شركات المساهمة في عمليات تشغيل أمولِهَا.
أمَّا المدير المالي لمحفظةٍ ماليةٍ تَعُودُ لمستثمرٍ أو مجموعة مستثمرينَ؛ فهو يُدِيرُ أموالَهُم الشخصية، وليس أموال أية شخصيةٍ اعتباريةٍ؛ الأمر الذي يُوجِبُ على المستثمرين أنفُسَهُم مراجعة تداولات المدير، في الوقت الذي يكون الكثير من المستثمرين من ذوي الاطِّلاع المحدود على علوم الإدارة المالية، وهذا السبب هو الذي دَفَعَهُم إلى توكيل مديرٍ لمحافِظِهِم أصلاً.
أمَّا الحديث عن رقابة شركة الإدارة على نشاط المدير الموظف لديها فهو غير فعَّالٍ؛ لأن الشركة قد تكون متواطئةً مع المدير أو مُهْمِلَةً لواجبها الرقابي مع ضخامة حجم العمل.
بناءً عليه، يستطيع مدير المحفظة أن يَشتَرِي للعميل أوراقاً ليس لها مستقبلُ نموٍّ كبيرٍ؛ لأنَّ للمدير مصلحةً مع الشركة التي أصدَرَت هذه الأموال، ومن جهةٍ أخرى يمكن للمدير أن يبيعَ الأوراق المالية المُثمِرَةِ ذات السيولة العالية من محفظة العميل إلى وسيطٍ ماليٍّ أو صانع سوقٍ؛ خدمةً لمصالح المدير مع هذه الأطراف الثالثة.
مثل هذه الممارسات قد دَفَعَت الكثير من الأسواق إلى تبنِّي قواعد حمايةٍ للعملاء المستثمرين من استغلال مدراء الأموال، ومنها إفصاح المدير عن أية مصالحٍ لديه، وعدم جواز قيامه بتداولات بين المحافظ التي يُدِيرُهَا أو ما يُسمَّى بالصفقات الداخلية، فلا يجوز له خدمة مصلحة عميلٍ على حساب عميلٍ آخر.
إضافةً إلى هذه الممارسات غير المشروعة التي تَضُرُّ بالعملاء، فإنَّ المدير قد يقوم بممارسةٍ أَوْسَعَ وأعمَقَ خطراً، وهي التلاعب بأسعار السوق المالية كلُّهَا، والإضرار بجميع المستثمرين المخدوعين من التلاعب.
فالمدير المالي يستطيع عقد صفقاتٍ متتاليةٍ على أسعار متسلسلةٍ صعوداً أو هبوطاً بالأسعار حتى يتلاعَب بسعر السوق في البورصة كما يشاء، وفي الاتِّجاه الذي يَخدِمُ مصلَحَتَهُ.
يمكن للمدير المالي تنفيذ هذا المخطَّط التلاعُبِي عبر الصفقات الداخلية بين مَحَافِظِهِ؛ ولذلك تَحظُرُ العديد من الأسواق هذه النوع الخَطِر من الصفقات.
بالمقابل، يمكن أن يكون المدير المالي أكثر دهاءً، فيقوم باستغلال أموال العملاء بطريقةٍ مَخفيةٍ، وهي أن يَقُومَ بإنشاء مؤسَّسةٍ ماليةٍ مُستقلَّةٍ عنه بالذمة المالية، لكن تَعُودُ ملكيَّتُهَا له بشكلٍ غير مباشرٍ من خلال تسخير مالكٍ مُسجَّلٍ ظاهرٍ، فيما يكون المدير هو المالك الفعلي.
وهكذا يُؤسِّسُ المدير المالي لهذه المؤسَّسة الفردية محفظةً تبدو مُستقلَّةً عن ذمَّة المدير وعن مصالحه الشخصية، وبعدها يبدأ المدير باستغلال أموال وأورق المحافظ التي يُدِيرُهَا لحساب عُمَلائِهِ في تداولاتٍ تَخدِمُ مصلحة هذه المؤسَّسة الفردية؛ فيَبِيعُ لها ما سيرتَفِعُ سِعرُهُ ويزداد أرباحُهُ، ويَشتَرِي منها ما سينخَفِضُ سعرُهُ ويَتَرَاجَعُ أرباحُهُ.
وإذا راجعنا الإجراءات التي تَعتَمِدُهَا سلطات الأسواق المالية بشكلٍ عامٍ نَجِدُهَا غير كافيةٍ لمُحَاصَرَةِ ممارسات المدراء الماليين غير المشروعة.
والمشكلة أنَّ سلطة السوق المالية قد لا تَرغَبُ بزيادة جُرعَةِ الصرامة في أنظِمَتِهَا الخاصَّة بافتتاح المحافظ المالية وتداوُلِهَا؛ والسبب هو رغبَتُهَا بتوفير مناخٍ مَرِنٍ ومُشَجِّعٍ لأصحاب المدَّخَرَات حتى يستثمِرُوا أموالَهُم في السوق، وهكذا يُفسَحُ المجال واسِعَاً لخبراء الإدارة المالية في تنشيط عَمَلِهِم، واستقطابِ المزيد من العملاء، بينما تُشكِّل صعوبة الإجراءات عامِلَاً طارِدَاً لهؤلاء بطبيعة الحال.
وهنا تَقَعَ الهيئة بين اعتِبَارَيْن مُتَعَارِضَيْن أوَّلُهُمَا حماية السوق مِن أنْ يتحوَّل إلى ساحةٍ لاستغلال الأموال من المدراء الماليِّين، وثانيهما المحافظة على سيولة السوق الآتية من المُدَّخرِين وعدم السماح للمدراء بهَدرِهَا خدمةً لمصالحهم الشخصية.
وكثيراً ما يَتَرَاوَحُ الاتجاه التنظيمي لسلطات الأسواق بين هذا الاعتبار أو ذاك وفق الظروف المالية والاقتصادية، وسنرى من خلال الجزء الثاني لهذا المقال موقف هيئة السوق المالية السعودية إزاء مواجهة استغلال مدير المحافظ المالية لأموال عملائه بإذن الله.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال