الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
إنه يوم السادس عشر من شهر مارس في سنة 2020م، كان هذا اليوم من أحلك الأيام التي خاضها الاقتصاد العالمي؛ فقد أرسل فيروس كورونا بلدًا تلو الآخر إلى حالة من الإغلاق، ممَّا أدَّى إلى تعطيل سلاسل الإمداد وقطاعات لا تُحْصَى. أُصيبت السيولة العالمية الدولارية بالجفاف، وأخذت مخاطر الركود العالمي في الارتفاع. ففي أوروبا تم تداول مقايضات التخلف عن سداد الائتمان (Credit Default Swaps) على الشركات باحتمالات تَخلُّف عن السداد بلغت حوالي 38٪.
ونظرًا لحالات الإصابة المؤكدة بـكورونا التي ارتفعت من أقل من 10 إصابات في يناير 2020م إلى ما يقارب 165 ألف إصابة، فقد جاءت الأخبار باحتمالية تفاقم الأمر من ناحية معدلات الوفيات وانتقال العدوى.
في غضون ذلك، كان المستثمرون في الأسواق في حالة قلقٍ شديدٍ، ومع تحوُّل المشاعر من القلق إلى الذعر، بدأ الانهيار. أنهى مؤشر داو جونز في ذلك اليوم بانخفاض 3 آلاف نقطة تقريبًا، في حين انخفض مؤشر إس آند بي 500 بنسبة 12٪، وانخفض مؤشر ناسداك بنسبة 12.3٪. كان أسوأ يوم لأسواق الأسهم الأمريكية (1) منذ يوم الاثنين الأسود في عام 1987م.
قام مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بتكرار سيناريو الحلول التي اتخذها في خضم الأزمة المالية العالمية الأخيرة؛ حيث سعى إلى تهدئة الأسواق وإمداد خط السيولة الفوري لمنع تأثيرات الجائحة. قبل افتتاح السوق في 16 مارس 2020م، وافق الاحتياطي الفيدرالي على ترتيبات خط المبادلة مع خمسة بنوك مركزية (2) ؛ في محاولة لتخفيف الضغط على العرض الائتماني العالمي. بعد أيام قليلة، أبرم الاحتياطي الفيدرالي اتفاقيات مماثلة مع تسعة بنوك مركزية أخرى. (3)
لكن كل ذلك لم يكن كافيًا. قبل نهاية الشهر ذاته، وسّع الاحتياطي الفيدرالي خطوط الإمداد لتشمل المزيد من البنوك المركزية التي تمتلك سندات الخزانة الأمريكية (4)، ومن بينها المملكة العربية السعودية. يمكن لهذه البنوك المركزية أن تقوم مؤقتًا بمبادلة أوراقها المالية مع الاحتياطي الفيدرالي لتأمين سيولة فورية بالدولار الأمريكي حتى تنتفي الحاجة بشكل كبير لتسييل أصولها من السندات الأمريكية.
سيكون دعم السيولة للمقترضين بالدولار الأمريكي خيارًا دائمًا للاحتياطي الفيدرالي. تُظهر مثل هذه التدخلات أن الفيدرالي ملتزم بتخفيف مخاوف عدم الاستقرار المالي وحماية الاقتصادات من العقبات على المدى القصير.
لكن ماذا عن المدى الطويل؟ هل مثل هذا الإجراء السريع –والذي يمكن التنبؤ به في بعض الأحيان– يزيد من ضعف النظام المالي؟ هل يخلق مخاطر للبنوك المركزية والمشاركين في السوق؟
فهم الحالة السائدة للاقتصاد عند حدوث الأزمة مهم جدًّا. بفضل التشريعات الأكثر صرامة بعد الأزمة المالية العالمية واتفاقيات بازل التي تواكب التغييرات الاقتصادية، أصبحت البنوك اليوم أكثر صلابة وجدارة ائتمانية عما كانت عليه. وبالتالي هذا ليس الهاجس الرئيس الذي يتصدر المشهد حاليًا. ولكن الاقتصاد مُثقلٌ كاهله بالمزيد من الديون، بالتالي فإن الشركات أكثر عُرضة للصدمات من ذي قبل. ففي عام 2020م، ارتفع إجمالي الدين العالمي بوتيرة لم نشهدها منذ الحرب العالمية الثانية وسط تحفيز نقدي وتيسير كمي هائل. بحلول نهاية عام 2021م، وصل الدَّين العالمي إلى مستوى قياسي يقارب 303 تريليونات دولار أمريكي. (5)
أدَّى هذا الدَّين الزائد إلى خَلْق مخاطر نظامية (Systemic Risk) أكبر، خاصةً في ظل الارتفاع الأخير في أسعار الفائدة. انخرطت بعض الشركات بالحصول على القروض خلال عصر الفائدة الصفرية أو التي تقارب الصفر، آخذين بعين الاعتبار أن صانعي السياسات والبنوك المركزية سيتدخلون في الأوقات المضطربة كما جرت العادة. هذا بلا شك جعل البعض لا يلتفت لبناء هامش الأمان.
كانت تقلبات السوق الأخيرة المتمثلة بالنِّزَالات الضارية بين المضاربين على الصعود والانخفاض، مدفوعة بالتكهنات حول ما سيُقْدم عليه الاحتياطي الفيدرالي. لقد كانت هذه المواجهات الدائرة بين كرٍّ وفرٍّ مع كل مستجد اقتصادي على الساحة. فكانت الأخبار الاقتصادية السيئة متنفسًا ومسوغًا للمضاربين على الارتفاع، مما يجعل توقعاتهم تتمحور حول إجراء الفيدرالي المحتمل إلى سلوك طريق تهدئة وتيرة أسعار الفائدة. أما في المعسكر الآخر، فثمّة مجموعة من المضاربين (المراهنون على الانخفاض بالأسواق) تؤمن أن أرقام النمو القوية أو بيانات الوظائف الجيدة تزيد من احتمالات تمسك الاحتياطي الفيدرالي بارتفاعاته لأسعار الفائدة.
الآن، ومع اقتراب اجتماع الفيدرالي المرتقب في منتصف شهر ديسمبر الجاري، فقد عادت أسواق الأسهم مرة أخرى إلى التقاط الأنفاس، جراء الآمال المعقودة على تحول الفيدرالي لسياسة ارتفاعات فائدة أقل مما كان متوقعًا.
قام بنك الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة لأول مرة في مارس الماضي، لذا فإن دورة رفع الفائدة الحالية لم تكمل عامها الأول. ومع ذلك، فإن الشركات المثقلة بالديون تعاني بالفعل من ضغوط. كم عدد ارتفاعات الفائدة التي يمكن أن تتحملها، وإلى متى؟
يُعدّ منع التضخم الجامح أمرًا بالغًا بالأهمية، ولكن الشأن ذاته ينطبق على معالجة العواقب الحتمية الأخرى من خلال سياسات مالية مُصاغَة بعناية تأخذ الاقتصاد بأكمله بعين الاعتبار.
علينا توقع واستشراف التحديات طويلة المدى. فاليوم تُعدّ التهديدات جليَّة؛ بيئة أسعار الفائدة المرتفعة ستكشف الغطاء عن الشركات ذات الرافعة المالية. وهذا يعني أن إدارة المخاطر يجب أن تكون من بين أولوياتنا القصوى وعلينا التحوط من دورة أسعار الفائدة المرتفعة(6). كما تتطلب إدارة الأصول والخصوم النشطة أن ننظر إلى ما هو أبعد من التأثير المحاسبي، ونركز على القيمة الاقتصادية لحقوق الملكية (7) (Economic Value of Equity) ، من بين مقاييس مهمة أخرى.
خلاصة القول: إنه في خِضمّ الاضطرابات الاقتصادية، غالبًا ما يؤدي حلّ التهديد الوشيك (مثل ضخّ السيولة الفورية) إلى خَلْق مخاطر أكبر على المدى الطويل. يجب أن نتجنّب التكهنات والمراهنة بشأن متى أو ما إذا كانت البنوك المركزية ستتدخل. علينا أيضًا أن نتذكر أنه مثلما لكل هبوط اقتصادي أسبابه الخاصة؛ فإن العلاج لا يعني بالضرورة أن يكون مماثلاً للأزمات السابقة.
المصادر:
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال