الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
القانون والأخلاق مرتبطان ببعضهما البعض، لأن كلاهما يعكس القيم ويوجه السلوك ، لكنهما ليسا نفس الشيء. في بعض الأحيان، القانون يسمح بالسلوك غير الأخلاقي والضار، بينما في مناسبات أخرى، يمكن للقوانين المعيبة أن تثير التساؤل عما إذا كان يجب على الناس الامتثال لها على الإطلاق. وهذا الأمر ينطبق بشكل كبير على رفع جودة مخرجات المؤسسات وانجازها. برامج مكافحة الفساد غالبا من تركز بشكل كبير على تطوير القوانين ذات العلاقة، الرقابة و المتابعة، تطوير برامج الحوكمة والالتزام، معاقبة المخالفين للانظمة واللوائح. كل هذا من أجل خلق بيـئة تسودها النزاهة. وبالتالي، النزاهة في معناها الظاهري هي منع وقوع جرائم الفساد من حيث الرشوة والاختلاس والتلاعب بالانظمة واستغلال السلطة لتحقيق مصالح شخصية .. الخ. لكن السؤال الذي دائما ما يتبادر الى الذهن، هي هل يمكن تحقيق النزاهة بشكل واقعي من خلال مكافحة جريمة الفساد؟
المشكلة من وجهة نظري ان مكافحة الفساد التي تقوم بها المؤسسات ذات العلاقة أمر في بالغ الاهمية وجزء اساسي في طريق خلق بيئة نظيفة. ولكنها ليست كافية، إذ أن النزاهة هنا سيكون منبعها الخوف من العقوبة فقط. من أكبر التحديات التي تواجه المؤسسات هو اتخاذ قرارت مع انخفاض معدل الشعور بالمسؤولية حول الأثر الذي يترتب على اتخاذ مثل هذا القرار. مثلا، منع بيع منتج اجنبي من اجل عدم منافسة منتج محلي، هذا يعتبر قرار جيد على المدى القصير، ولكن أثره سلبي جدا على المدى الطويل حيث أنه سيقتل المنافسة، وسيجعل المُنتج يرفع قيمة السلعة مع تقديم سلعة منخفضة الجودة. وهذا اثره سلبي على الاقتصاد والمجتمع، كما انه قد يساهم في انتشار الفساد. وبالتالي، الفساد سيكون نتيجة حتمية، على الرغم من وجود مؤسسات قوية لمكافحة الفساد. وبالتالي، من المهم جدا العمل على وضع برامج خاصة بتدريب التنفيذيين ومتخذي القرار على اتخاذ القرارات التي تساهم في رفع النزاهة في المؤسسة، وليس العكس.
الامثلة على ذلك كثيرة، ولكن سوف اشير الى شركة Siemens AG . تعتبر شركة سيمنز أكبر شركة صناعية أوروبية متعددة الجنسيات ولها فروع في أماكن مختلفة من العالم، وبالتالي، السيطرة عليها صعب جدا. تعرضت هذه الشركة لفضائح متتابعة بخصوص ارتكاب جرائم فساد واتخاذ قرارات لا تصب في مصلحة الشركة. كيف تمكنت شركة Siemens AG من النجاة من الفضائح بينما انهارت شركات اخرى بحجمها واختفت؟ اولا، يتعلق الأمر بتقبل الشركة لوجود المشكلة لديها من خلال الاعتراف بفشل نظام الرقابة الداخلية ، ودفع الغرامات المرتبطة بالفضائح، والمضي قدمًا في بناء نظام رقابة داخلي مطور. سيمنز إيه جي هي شركة متعددة الجنسيات تضم ستة أقسام رئيسية في الصناعة والطاقة والرعاية الصحية واستثمارات الأسهم وحلول وخدمات تكنولوجيا المعلومات والخدمات المالية مع تدفق إيرادات عالمي يزيد عن 71 مليار يورو. بكل المعايير ، شركة عالمية لها وجود في ما يقرب من 200 دولة. هذا الوجود منطقيًا يفسح المجال لمزيد من المخاطر، واحتمالية تعرضها للنقد في وسائل الإعلام مرتفعة عند اكتشاف أي شكل من أشكال الفساد او عند فرض عقوبات عليها. في 15 ديسمبر 2008 ، أقرت شركة Siemens AG بالذنب أمام المحكمة الفيدرالية الأمريكية لخرق قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة (FCPA) و دفعت غرامة قدرها 450 مليون دولار بالإضافة إلى الموافقة على دفع 395 مليون يورو غرامة لانتهاكها قوانين مكافحة الفساد الألمانية. منذ عام 2006 ، دفعت شركة Siemens AG أكثر من 3 مليارات دولار كغرامات ، بما في ذلك مصاريف مقدمي الخدمات والمحامين والمحاسبين ، لتسوية فضائح الرشوة.
تم تشخيص مشكلة الشركة، كونها شركات لديها فروع في أماكن مختلفة من العالم، وبسبب المنافسة المتزايدة ورغبة التنفيذيين في إبرام الصفقات والعقود، يضطر المسؤولين لدفع الرشاوي او ممارسة أي أنواع الممارسات الفاسدة من أجل الحصول على العقود، لا سيما في الأسواق الناشئة حيث تنتشر الرشوة والفساد. حاولت الشركة بكافة الطرق ان تمنع مثل هذا الأمر من خلال نظام رقابة داخلي قوي، الا ان الدروس المستفادة من العقوبات السابقة ، أثبتت أنه من الصعب الحد من القيم المتطرفة الفاسدة. وعلى الرغم من كل هذه الفضائح، وهذه التجاوزات القانونية، الا ان الشركة لم تنهار واستطاعت اعادة بناء سمعتها كشركة قائمة على اساس عالي من النزاهة. السبب الرئيسي هو أن شركة Siemens AG بذلت جهدًا لإعادة تنظيم إدارتها من خلال نظام رقابة داخلي قوي يؤكد على المساءلة والشفافية. قامت شركة Siemens AG بمراجعة أنظمة حوكمة الشركات والامتثال الخاصة بها منذ 15 نوفمبر 2006 عندما تمت مداهمة أكثر من 30 من مكاتبها على أساس الاشتباه في الرشوة والاختلاس والتهرب الضريبي ، مما كشف النقاب عن العديد من فضائح رشاوى الشركات الكبرى في العالم.
في حالة شركة Siemens AG ، كان هناك نقص في المساءلة وبرنامج امتثال قوي وشفافية بين إدارتها، مما سمح للموظفين بالمشاركة في السلوك اللامسؤول احيانا والفاسد احيانا اخرى. كان ذلك كله في المقام الأول بسبب عدم وجود خطوط مناسبة لتحديد مستوى المسؤولية في حال اتخاذ قرارات لم يتم بنائها على أساس صحيح ومتين. بدلاً من ذلك ، كان لديها إدارة غير مستعدة لاتخاذ قرارات مسؤولة ذات اثر ايجابي طويل المدى، وانغمس مديرو الشركة في التفاوض على العقود فقط من اجل ان يتم تسجيل أن هذا التنفيذي قد حقق هذا العدد من العقود بغض النظر عن طريقة الحصول على العقد أو مدى جدوى هذا العقد. لأن التركيز كان على الصفقة قصيرة الأجل التي لم تأخذ في الاعتبار تداعيات الفساد على المدى الطويل. أي أن ثقافة الأعمال في شركة Siemens AG لم تلتزم بالمعايير الأخلاقية وتجاهلت الآثار المترتبة على عدم الالتزام بمجموعة القواعد القانونية. بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من قانون التعيين المشترك في ألمانيا ، الذي يروج لضرورة أن يضم مجلس إشراف الشركة ممثلين عن العمال ، فإن الفضائح في شركة سيمنز والشركات الألمانية الأخرى (مثل فولكس فاجن) كشفت أن السياسة غير فعالة إلى حد كبير. على الرغم من ذلك ، تمكنت شركة Siemens AG من النجاة من أي ضرر مالي أو ضرر بالسمعة بسبب العديد من الفضائح التي تم الكشف عنها بين عامي 1999 و 2006.
ولحل هذه المشاكل القانونية وحماية الشركة من الانهيار كمثيلاتها التي تعرضت لنفس التحديات والفضائح القانونية. غيرت الشركة سياستها حيث قام الرئيس التنفيذي بوضع برنامج يهدف لضمان “أداء أفضل على أعلى مستوى أخلاقي” و “جعل إعادة تنظيم شركة Siemens والفحص الأخلاقي لكبار المديرين التنفيذيين من أولوياته”. منذ تطبيق نظام العقوبات الصارمة ،وإعادة تنظيم خطوط مسؤولية شركة Siemens AG ، و وضع برامج لتنمية حس المسؤولية لدى من يملك صلاحية اتخاذ القرار، انخفضت الرشوة التنفيذية والفساد بكافة انواعه و انخفضت معدل القرارات التي يتم اتخاذها من دون الأخذ بالاعتبار نتائجها العكسية. توضح الحالة أنه في شركة عالمية كبيرة يوجد بها نظام الادارة اللامركزية ، فإن تطبيق نظام رقابة داخلي قوي يجب أن تكون أولوية الإدارة. وضع برامج لتعيين وتطوير التنفيذيين القادرين على اتخاذ قرارات على مستوى عالي من تقدير المسؤولية لعواقب قراراتهم. “إن مجرد الإعلان عن الحاجة إلى مزيد من النزاهة وتسلسل المسؤولية” كما صرح رئيسها التنفيذي بيتر لوشر في عام 2007 ، لن يضمن وجود ثقافة أخلاقية قوية لحوكمة الشركات الفعالة.
الخطأ هو أن الحلول الرئيسية التي دائما نتكلم عنها فيما يخص بمكافحة الفساد هي المبادرات والتشريعات التنظيمية والحوكمة وكل ماله علاقة. التشريعات والمبادرات مهمة جدا ولكنها ليست كافية، بدليل أنه على الرغم من وجود القوانين والتشريعات الا انها غير قادره على تقليل الفساد أو حتى خفض معدل اتخاذ القرارات اللامسؤولة من قبل أصحاب الصلاحية. لأن التشريعات والمبادرات هي عامة ولا تأخذ في الاعتبار أهمية الثقافة التنظيمية والنزاهة الشخصية وتنمية حس المسؤولية. قبل أن نركز على الحلول التي تركز على التدابير القانونية والنظامية والتقنية والسوقية التي من شأنها أن تقلل إلى حد كبير من الاحتيال والفساد ، يتعين علينا التركيز على النزاعات التي تنشأ بسبب التحديات والقضايا التي تواجه المؤسسة، والتي تحتاج إلى حل ضمن الهيكل التنظيمي للمؤسسة وثقافتها. هذا يعني أنه يتعين علينا فحص المشكلة الواضحة في قضايا الفساد او قضايا المتعلقة بتعثر المشاريع التي تعثرت بسبب الفساد أو بسبب اتخاذ قرارات غير مدروسة، والتي غالبًا ما يتم تجاهلها من قبل أولئك الذين يعملون على حل المشكلة ، بالاضافة الى دراسة ثقافة الفرد متخذ القرار و ثقافة المؤسسة.
لأننا نناقش النزاهة ، يصبح الفرد أهم عنصر في المؤسسة وثقافتها. من القيادة إلى الموردين الرئيسيين والبائعين إلى الموظفين الجدد ، يجب أن توجد النزاهة في الفرد حتى توجد المؤسسة الناجحة ، يعمل الأفراد كبوابة المؤسسة للسلوك الأخلاقي. وبالتالي ، افتراض أن السلوكيات الإجرامية ستتغير من خلال سن القانون وإنفاذه بمجرد إدخال نهج القيادة والسيطرة على الفساد وهذا أمر يحتاج برامج تدعمه لينجح تطبيق القانون. لابد من العمل على تنشئة الموظفين والتنفيذيين وتطويرهم من حيث فهم الأخلاقيات التي يجب مراعاتها من ناحية، ورفع حس المسؤولية لديهم من خلال برامج خاصة بذلك.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال