الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لفترات طويلة تم غرس مفهوم ان الضريبة (محرمة)، وان مقتها وذمها امر يؤجر عليه، اما التهرب منها فإن (امكن) ففيه خير كثير. تم هذا على جميع الأصعدة ابتداء من المدارس والجامعات والمجالس وانتهاء بـ منابر المساجد. تم ذلك على مدى طويل، ولأغراض لا تخفى على مطلع. ولكن بعيدا عن هذا، ما هي الزكاة؟ ولماذا حددت أوجه صرفها بنص القرآن؟ ولماذا لم يحدد القرآن مقدارها تفصيلا او حتى (على وجه العموم) من الأصول المختلفة؟ ولكن السؤال الأهم، هل هناك فرق بين الزكاة والضريبة؟.
سأبدي رأيي وقبل ذلك اود ان أؤكد على احترامي وحبي العميق لأعضاء هيئة كبار العلماء والمنوط بهم شرح وتفسير وتبيان ما يستصعب على المسلمين فهمه من احكام بالاضافة لمهامهم الاخرى وفقهم الله. أن الحمل الذي يقع على عاتق أصحاب الفضيلة العلماء حمل ثقيل، وحب المسلمين في اصقاع الارض لأعضاء هيئة كبار علمائنا انما هو نتاج تقدير عميق لعلمائنا الاجلاء، فعلمائنا من نتوجه لطلب العلم وندعوا الله لهم التوفيق والسداد في تأدية ما هم مكلفين به من مقام مولاي خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين الأمير الفذ محمد بن سلمان حفظهما الله.
في البداية أود ان اشير الى انه في زمن البعثة كانت الأمور الاقتصادية في الجزيرة العربية والعالم كله في حال يرثى لها، ومن يعود الى كتب التاريخ بإمكانه ان يصل لنتيجة مفادها ان الحال الاقتصادية كانت كارثية، وخصوصا على من آمن بالرسالة المحمدية في بداياتها، حيث تعرضوا لحصار عنيف، بلغ اوجه حين اضطر المؤمنين أكل أوراق الشجر، كما تشير المراجع. من المنطقي والبديهي ان تكون أوجه صرف الزكاة حينها وفي تلك الظروف الاقتصادية وفق على ما نص عليه القرآن في هذا الصدد.
فأوجه الصرف المحددة كانت نتيجة للظرف السائد عالميا ولمعالجة حالة لا ينبغي الاجتهاد معها في الصرف على غيره. وكان نجاح هذا الأمر بين الى يومنا هذا، فلا الجزيرة العربية وغيرها من البلاد الإسلامية تعرضت لمجاعة افنتهم، والإسلام انتشر وما زال الى يومنا هذا. ولكن اود وفق ما يظهر لي ان تحديد أوجه الصرف كان لحل المعضلات القائمة حينها، وكان لا بد من تحديدها بتوجيه إلهي حتى يقطع اي سبيل على اي محاولة للتبديد في غير أوجه الصرف المنصوص عليها في القرآن وفق تحديد الهي لمَ تقتضيه تلك المرحلة (الأهم) في تاريخ الإسلام. وحتى في كافة الأجزاء التي انتشر فيها الإسلام لاحقا (افريقيا واسيا واوروبا وغيرها) كانت الظروف التي تمر بها الانسانية صعبة جدا.
ولكن وبعد ما يزيد عن 1400 سنة، هل الظروف نفسها؟ سؤال قد يبدو من البديهي الاجابة عليه بالنفي، ولكن آلية استنباط الأحكام الفقهية تشير الى ان الظروف ما زالت قائمة، وهذا خطأ كبير في رأيي.
أعود فأقول إن مرحلة المجاعات ومرحلة العداء والمحاصرة وغير ذلك انتهت في العالم كله وليس فقط عند المسلمين، والإنسانية تجاوزتها باستثناء الدول التي تسلط عليها إرهابيين ومناطق الصراع والحروب الظاهرة، وحتى هذه الأماكن لا تحدث فيها مجاعات، لأن المجتمع الدولي والحكماء في العالم لن يسمحوا بذلك. كما أن مفهوم الدولة تغير وتطور منذ بدء الرسالة المحمدية إلى ان أصبحت على ما هي عليه الآن، فأولويات انفاق (الدول) والتنمية والأمن وغير ذلك تغير، وأصبحت الدول تتنافس في الإنفاق على الصحة والتعليم والأمن والجيش والطرقات والجسور والتقنية وغيرها، بالإضافة للمعونات الغذائية التي تكفلها الدول للفئة المحتاجة وغيرها. وعليه فحصر إنفاق الدول على (نقاط) محددة لا تتغير أمر بحاجة للمراجعة في رأيي.
الآن يأتي السؤال هل الزكاة (ضريبة) ؟ وهل هناك فرق بين الزكاة والضريبة؟ وهل هناك فرق بين الزكاة والضريبة واي مسمى آخر يندرج تحت هذا المعنى؟ ولمعرفة الجواب لا بد من الرجوع (اللغوي) للقرآن. وضرورة الرجوع اللغوي مطلب (جوهري) استنادا لقوله تعالى في الآيات التالية، “بلسان عربي مبين” وقوله تعالى “إنا أنزلناه قُرْآنًاعربيا” وقوله جل في علاه “إنا جعلناه قُرْآنًاعربيا”، وقول الخالق “وكذلك أنزلناه حكما عربيا” وقول الله “وهذا لسان عربي مبين” وقوله تبارك سبحانه “وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا” وقوله العظيم سبحانه “قرءانا عربيا غير ذي عوج” وقوله العزيز “كتاب فصلت آياته قُرْآنًاعربيا” وقوله تبارك “وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا”، ففهم اللغة العربية ضروري وجوهري لفهم معنى الزكاة، كما انه ضروري لفهم اي مقصد او حكم اسلامي نص عليه القرآن.
والزكاة لغة تأتي بمعنى النماء والزيادة، مع اختلافات في اختيار مفردات هذا المعنى من قاموس الى آخر. تم اختيار كلمة زكاة كتأكيد ان ما يؤدى لخزينة الدولة من مبلغ مستحق وفق القوانين والانظمة بتقدير من الدولة اذا أنفق بشكل متقن يؤدي (للنماء والزيادة). تاريخيا وفق المراجع خزينة الدولة في بداية عهد الرسالة تسمى (بيت مال)، الآن تغير هذا المسمى. والمسميات تتغير لسعة اللغة العربية. فعلى سبيل المثال لا ذكر (للأسد) في القرآن، بل يوجد مفردة (قسورة) وايضا لا توجد مفردة (وظفت) في القرآن بل توجد (استأجرت) وغيرها الكثير. الشاهد ان مفردة زكاة اختيرت بعناية للدلالة على ما ستؤدي له وفق المعنى، فالمال الذي يؤدي للدولة (زكاة سميت او غيره) يؤدي (للنماء والزيادة) في الشأن الاقتصادي والاجتماعي وغيره. اما اختلاف الاسماء (تاريخيا) لما يؤدي للدولة (كالخراج مثلا) وغيرها ففي رأيي هدف ذلك التصنيف فقط لحصر مصادر الدخل، يعني باللغة الحديثة عملية تصنيفية محاسبية بحتة.
حتى لا أطيل، في (رأيي)، الزكاة هي كلمة مرادفة للضريبة. لأنها مال يؤدى للدولة ممن تنطبق عليهم الشروط المحددة من الدولة. ولم يحدد الخالق مقدارها والأصول المستخرجة منها لأن ظروف (الدول) تختلف باختلاف الأزمنة والظروف الاقتصادية والظروف السياسية وغيرها، وحتى الأصول الاقتصادية تتغير وستظل تتغير الى نهاية الحياة، اما تحديد سبل إنفاقها في القرآن فهو توجيه رباني للرسول العربي الكريم لمَ تقتضيها مرحلة النبي صلى الله عليه وسلم . (والتجمد) على تعريفات وقوانين للزكاة او الضريبة لعهود تعود بعضها لأكثر من 1300 عام أمر يدعو للتساؤل، لمصلحة من هذا الجمود؟.
ان تصوير الضريبة على أنه أمر محرم او منبوذ او ممقوت يجب أن يبحث في أساس منشأة؟ ليعالج بطريقة حكيمة ومنطقية ويجب ان يشارك أساتذة الاقتصاد والمالية وذوي التخصص المالي من مختلف القطاعات في هذا. ان جذور تصوير الضريبة على انها محرمة في الإسلام جذور تستحق الدراسة من علماء التاريخ. وأكرر يجب ان يعالج (تحريم الضريبة) بالفكر الاقتصادي ويجب أن تفلسف ليسهل فهمها على غير ذوي التخصص المالي والاقتصادي. واكرر ان رأيي (الضريبة زكاة والزكاة ضريبة والمسميات العربية كثيرة)، مفردات للمعنى نفسه. واحكامها ضرورة لسلامة الموقف المالي والاقتصادي والاجتماعي للدول ومن ثم المجتمع.
وفي رأيي أي مال يؤدى للدولة وفق تقديرها هو المقصود بالركن المعروف بالزكاة. وفي النهاية لا يسعني سوى الدعاء بالتوفيق لأعضاء هيئة كبار العلماء الاجلاء الذين اكن لهم تقدير خاص جدا واشعر بالحمل الثقيل الملقى على عواتقهم وادعو لهم بالسداد والتوفيق، كما ادعو بالرحمة على السلف الصالح لحفظهم تعاليم الرسالة المحمدية وتوثيق اللغة العربية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال