الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
سيسلّط هذا المقال الضوء على ممارسة بعض المجالس التنفيذيّة، وبالذات الشركات المساهِمة المدرَجة، لأسلوب “إدارة الأرباح”، وعلى كيفيّة تعامل هيئة سوق المال الأمريكيّة مع مثل هذه التصرّفات، إضافة إلى مبادرة EPS (ربحيّة السهم) التي أنشأتها هيئة سوق المال الأمريكيّة((SEC مؤخّرًا للحدّ من تلاعب الشركات بربحيّة الأسهم، حيث بدأت SEC بشكلٍ دقيق في مراقبة القوائم الماليّة للشركات المساهِمة المدرَجة، ومعاقبتها عند “مكيجة” القوائم الماليّة تحت مفهوم إدارة الأرباح.
بدايةً، يهدف المستثمر عند استثماره إلى تحقيق عوائد ربحيّة، كما هو الحال بالنسبة لهدف الشركة الرئيسيّ وهو تحقيق الأرباح. ولن ادخل في هذا المقال القصير في الجدل المتزايد لمن يفترض أن تدار أصول الشركة حوكمياً, للمساهمين, أو المستثمرين, للعمال, لحماية البيئة وكل أصحاب المصالح. سيكون التركيز على المستثمرين. ولهذا، عندما تسمع حديث الناس حول الباعث وراء شرائهم أو بيعهم لسهمٍ ما، فغالبًا ما يكون سبب الشراء أو البيع هو أنّ مكرّر الأرباح عالٍ أو منخفض. من نافلة القول، هناك خلاف بين المجتمع الأكاديميّ، وبين الممارسين من الماليّين، ومئات الكتب حول الطريقة الجيّدة لاختيار سهم بدلًا من غيره، أو كيفيّة تكوين محفظة متّزنة، لكنّ السواد الأعظم يلجأ إلى أسلوب التحليل الماليّ للقوائم الماليّة، كما قدّمه بنجامين جراهام، والمُتَّبَع اليوم من قبل العديد من كبار المستثمرين، وعلى رأسهم وارن بافيت؛ والذي يعتمد على حثّ المستثمر على البحث عن القيمة الفعليّة للشركة؛ لتقرير الشراء من عدمه، أو زيادة استثماره.
طبعاً هناك من يرفض هذا الأسلوب التحليليّ في البحث عن القيمة الفعليّة للشركة، فما هي القيمة الفعليّة أصلًا؟ كما أنّ هناك المدرسة الحديثة في استعمال الجداول والرسوم البيانيّة؛ لتحليل توجُّه وقراءة السوق لتقدير نموّ الشركة والاستثمار في الشركات المتوقع لها النمو. وبعضهم مَن لا يرى السوق إلّا مسألة نفسيّة، مع بعض الحظّ، كما يقول الكاتب الاقتصاديّ المشهور بورتون مالكيل في كتابه “المشي العشوائيّ في وول ستريت”: ” 10% من السوق يمكن تفسيره بالمنطق، والمتبقّي ليس إلّا أمرًا نفسيًّا”.
لكن يكاد يجتمع الكثيرون على أسلوب التقييم وتحليل القوائم الماليّة للبحث عن القيمة الفعليّة العادلة للشركة مُقارَنةً بقيمتها السوقيّة. ومن هنا تكمن أهمّيّة القوائم الماليّة، وما تفصح عنه الشركات للمستثمرين في ظلّ قواعد هيئات السوق الماليّة الصارمة، تحت باب الشفافيّة والإفصاح؛ حتى يتمكّن المستثمر من تقييم استثماره، واتّخاذ قرار الشراء، أو البيع، أو عدم الشراء تمامًا، وحتّى المقارنة مع شركات أخرى في نفس القطاع. والسؤال، كيف يثق المستثمر الذي سيتخلّى عن أمواله لإدارات الشركات التنفيذيّة أنّها ستُدار بالشكل الجيِّد، كما يتكرّر في أدبيّات حوكمة الشركات تحت مفهوم انفصال الملكيّة عن الإدارة؟
من الحلول القانونيّة لتخفيف هذه الفجوة، والتعارض بين مصالح إدارات الشركات والمستثمرين؛ إفصاحُ مَن في الداخل -إدارات الشركات- لمَن هم في الخارج من مستثمرين عن الوضع الماليّ الواقعيّ للشركة عبر ما يُسمّى المركز الماليّ للشركة وقوائمها الماليّة، فضلًا عن الالتزامات المستمرّة بالإفصاح عن الوقائع الجوهريّة للمستثمرين، وللسوق. بعبارة أخرى، تلك الإفصاحات هي مرآة للمستثمرين، تُخبِرهم بما يحدث داخل الشركة، وكيف تدار أموالهم. وهنا تكمن المشكلة، فهل تعكس هذه القوائم الواقع الحقيقيّ للشركة، أم “تُجمِّله” مستخدِمَةً ما يُعرف بمصطلح “إدارة الأرباح”؟ وإلى أيّ مدى تعاقب هيئات السوق على إدارة الأرباح؟ وما هو المدى المسموح به؟
الإشكاليّة هي أنّ للإدارات التنفيذيّة داخل الشركات نطاق مسموح، وسلطة تقديريّة في التأثير على مسار التقارير الماليّة إلى الحدّ المقبول، حسب الأصول المحاسبيّة المتعارَف عليها أو إلى المدى الذي قد يخضع المدقق الخارجي لطلبات ورغبات الشركات خوفاً وطمعاً. طبعًا نحن لا نتحدّث هنا عن التزوير والخداع في القوائم الماليّة، فهذه مسألة واضحة، لا جدال في مخالفتها لقوانين وعقوبات الأسواق الماليّة الواضحة في أيّ دولة، فالمعضلة ليست عندما تلجأ شركة ما إلى أسلوب “إدارة الأرباح” لتوضيح معالجةٍ حسابيّةٍ لبندٍ معيّن من القوائم الماليّة؛ من أجل رفع مستوى الشفافيّة والإفصاح، كما تطلب قواعد المحاسبيّة، وتفرض هيئات السوق، بل تكمن الخطورة في المنطقة الرماديّة، عندما “تمكيج” الإدارات التنفيذيّة القوائم الماليّة، مستغِلَّة بشكل متعمَّد الثغرات في الأصول المحاسبيّة؛ بهدف رفع قيمة الشركة، والوصول، وتخطّي تقديرات مسبقة عن نموّ الشركة أو ربحيّتها، فضلًا عن تحقيق مصالح شخصيّة لمجالس إدارات الشركة من برستيج، وما يأتي معه من حوافز ماليّة، لا سيّما إذا وُجِدَ ارتباط كبير بين أداء الشركة ومكافآتهم.
ومن هنا يأتي دور هيئات الأسواق الماليّة الكبير في مراقبة مثل هذه الإفصاحات والتقارير الماليّة التي تصدرها الشركات؛ حمايةً للمستثمرين الذين فقدوا إلى حدٍّ كبير القدرة على معرفة ما يحصل داخل الشركة، إلّا عبر ما تنشره تلك الشركات لتخبر السوق والمستثمرين عن الوضع الماليّ الفعليّ، والذي يمكِّن المستثمر من التحليل، وتقرير حقّه الاستثماريّ في البيع أو الشراء أو حتى حقه في رفع القضايا. ويزداد دور الهيئة، لا سيّما مع تضاءل دور المساهمين في الشركات المدرجة، وهو ما يُعرف بظاهرة عدم الرغبة في الاشتراك في الرقابة الفعليّة على تلك الشركات، مثل حضور الجمعيّات العامّة، والتصويت… إلخ؛ لقلّة الخبرة، والوقت، أو التكلفة.
ومن هنا أحسنت هيئة السوق الأمريكيّة عبر تأسيس ما يُسمّى مبادرة EPS ربحيّة السهم؛ لفحص وتدقيق قوائم الشركات، لاكتشاف إذا ما كان هناك تضليل للمستثمرين عبر ما يسمّى “بإدارة الأرباح”. والمتابِع للقضايا الأمريكيّة، يجد تزايدًا في القضايا المرفوعة من قبل الهيئة الأمريكيّة ضدّ شركات “مكيجت” قوائمها الماليّة؛ حتى لا تَخيب توقّعات المستثمرين والمحللين، حتّى وإن كانت بمبالغ بسيطة لا تتجاوز بضعة قروش. ومن آخر القضايا التي أعلنت عنها SEC قضيّةٌ ضدّ شركة تقدّم خدمات صحّيّة، فبعد رفع قضايا عمّاليّة، والتصالح مع عمّالها على مبلغ تعويضيّ، فشلت في أن تعكس هذا في قوائمها الماليّة في الفترة المحاسبيّة الخاصّة بتلك الفترة، كما توجِب القواعد المحاسبيّة GAAP؛ ممّا مكّن الشركة من تحقيق نسب الربحيّة حسب توقّعات المحلّلين الماليّين السابقة عنها، فعُوقبَت بالغرامات، فضلًا عن منع المكتب المحاسبيّ من تقديم خدمات محاسبيّة أمام الهيئة لمدّة ٣ سنوات.
ومن هنا يقودنا الحديث إلى موقف هيئة سوق المال السعوديّة، لا سيّما أنّ البحوث المنشورة تشير إلى لجوء الشركات المدرجة المساهمة السعوديّة بنسب عالية ٤٥٪، وتصل إلى ٧٥٪، إلى أسلوب ممارسة إدارة الأرباح. وممّا يعضد المشكلة، هو التقرير الصادر مؤخّرًا عن هيئة سوق المال، تحت مسمّى “أبرز الملاحظات على إفصاحات القوائم الماليّة للشركات المدرجة لعامي ٢٠٢٢ و٢٠٢١م“. بداية، يعدّ ما قامت به هيئة سوق المال أمرًا جيّدًا، وتُشكَر عليه، لكن ليس واضحًا من تقرير الهيئة إذا ما عوقبَت تلك الشركات، أو المكاتب المحاسبيّة التي تقف خلف هذه الممارسات، حيث جاء التقرير دون ذكر أسماء لشركات. ولعلّنا نورد بعض الملاحظات حول هذا التقرير.
فعلى سبيل المثال، يذكر تقرير هيئة سوق المال أنّ هناك شركات فشلت في توضيح مصادر الإيرادات في قوائمها، وأنّ “هناك نقصًا حادًّا في الإفصاحات”، وخللًا في قائمة التدفّقات النقديّة، وقد كانت هذه “أهمّ أوجه القصور” حسب تقرير الهيئة. كذلك، أدرجت بعض الشركات بنودًا غير نقديّة، مثل تسويات سابقة، في الطريقة غير المباشرة في تقديم تقرير التدفّقات النقديّة من الأنشطة التشغيليّة CFO، وهي بنود تقوم على الأساس النقديّ. وبحسب خلفيّتي المتواضعة، هي من أهمّ خطوات المستثمرين والمحلّلين لتقييم الشركة، من خلال خصم التدفّقات النقديّة؛ للوصول إلى التدفّق النقديّ الحرّ. ويضيف التقرير أيضًا فشل بعض الشركات في تسجيل بعض العمليّات ضمن الفترة المحاسبيّة التي تخصّها، وهو ما يشابه القضيّة التي رفعتها الهيئة الأمريكيّة على الشركة الصحّيّة التي لم تعالج التعويض محاسبيًّا عن القضية العمّاليّة في الفترة الملائمة والخاصّة بها.
وفي الختام، يُفتَرَض أن تبذل هيئة الأوراق الماليّة السعوديّة جهدًا مضاعفًا مقارنةً بنظيرتها الأمريكيّة؛ لقلّة المؤسّسات الماليّة التي تقرأ وتمحّص مثل هذه القوائم الماليّة لدينا مقارنة بما هي عليه في الجانب الأمريكيّ، فمثل هذه الممارسات المحاسبيّة تزيد بشكل كبير جريمة استغلال المعلومات الداخليّة، فالإفصاح المتأخِّر، مثل عدم الإفصاح. وينبغي أيضًا:
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال