الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
قبل البداية أود إبداء إعجابي الجم بعادة جميلة في المجتمع الوظيفي تقوم على مبدأ تقدير زملاء العمل للموظف الذي يغادر المنظمة مهما قصرت مدة زمالتهم له. فيجتمعون في مكان عام ويقيمون له مأدبة عشاء فاخر وقد يتخللها تقديم هدايا ودروع تذكارية وكلمات شكر وثناء ودعاء بالتوفيق من الطرفين. لست هنا بصدد الحديث عن فخامة ذلك الحفل وتفاصيله وقيمة الهدايا وعمق المشاعر ولكن سأتطرق للظروف التي كانت وراء مغادرة ذلك الموظف دون النظر إلى مدى استفادته من تلك المغادرة التي يصفها ابن الرومي بقوله: “فما كل من حط الرحال بمخفقٍ… ولا كل من شد الرحال بكاسبِ”.
تختلف أسباب مغادرة الموظفين للمنظمة من فرد لآخر ولكنها تشترك غالباً في جذور تلك الأسباب. لماذا يغادر ذلك الموظف المميز والذي كان عطاؤه نموذجاً يحتذى في احترافية الأداء؟ ما الذي يجعل الموظف -الذي كان له دوراً فاعلاً في إنجازات المنظمة- يفكر بالرحيل؟ هل هي حرب الكفاءات القائمة على قوة اقتناص العقول (Head Hunting) ؟ أم هي تنافسية الاستقطاب التي تعتمد على وجود إغراءات مادية وغير مادية- كقيمة مقدمة للموظف (Employee Value Proposition )- لجذب الكفاءات؟
ففي إحدى الدراسات البحثية التي أجريت على مجموعة من الموظفين وجدت أن ٦٣٪ من الموظفين الذين لا يشعرون أنهم يُعاملون باحترام ينوون المغادرة عند توفر الفرصة الملائمة. فالأمر لا يتعلق فقط بمستوى الأمان الوظيفي.
تسعى وزارة الموارد البشرية في المملكة من خلال العديد من المبادرات والمراجعات الدورية لأنظمة العمل لتعزيز دور تلك الأنظمة واللوائح وتوجيهها لتحقيق الأمان الوظيفي للموظفين ومع هذا فإنه لايزال هناك عوامل مختلفة داخل المنظمات تحتاج إلى صيانة وصياغة لتتواءم مع متغيرات كل مرحلة.
و لطالما كانت القيادة في المنظمة تلعب الدور الأساس في التحفيز وإثارة الحماس لدى الموظفين للاستمرار والعطاء والتفاني، وبذكر كفاءة القياديين، أذكر مثالاً من واقعي العملي، فقد كنت في السابق أرى أن من يغادر بسبب سوء تعامل مديره المباشر معه- بقناعتي الخاصة- أنه انسان ضعيف وذو شخصية انهزامية تجنبية يميل إلى الانغلاق على الذات وعدم الرغبة في مواجهة التحديات حتى لو كلفه الأمر أغلى الأثمان، ومع مرور الزمن ومن خلال عملي مع مختلف البيئات ومشاهدتي لبعض الشخصيات المعقدة وجدت أن أولئك المغادرون لديهم من الصواب ما يبرر رحيلهم. من تجربة شخصية عملت مع أنماط غريبة من المديرين (على الرغم من قلتهم) كان وجودهم في كثير من الأحيان يخلق بيئة عمل مسمومة تجعل من حولهم يفرون منهم فرارهم من الأسد، فمثلاً: أحد من عملت تحت إدارتهم كان عنصرياً بطريقة بغيضة (تظهر بقوة عندما لا يكون من يتعنصر ضدهم متواجدين) والعجيب أنه عندما يتحدث أمام العامة يدعي الاعتدال وينادي بالعدالة مع الناس، والآخر انفصامي نلاحظ عليه أعراض ذهانية جلية فكل يوم ينقض قرار الأمس ويأتي بمبررات تخالف مبرراته السابقة وكأنه شخص آخر ينظر بمنظور مناقض لمن قبله ويحاول اثبات وجهة نظره الجديدة على أنها الصواب الوحيد، والثالث لديه عقدة نقص ( يحاول دائماً الانتقاص من كل من يعمل معه لإبراز مميزاته المزيفة وإثبات نرجسيته المقيتة) والرابع يفعل ما يؤمر فقط دون الحاجة لمعرفة الهدف أو السبب (كالحمار يحمل أسفاراً) ولا يدرك كيفية ربط مهام إدارته بمستهدفات واستراتيجية المنظمة.
وصحيح أني عانيت من التعامل معهم في بداية الأمر لدرجة عدم القدرة على احتمال الوضع لما أراه من تناقض وتباغض، إلا أنني كنت في كل مرة أتراجع عن قرار الرحيل لأثبت لنفسي أني أقوى من ذلك التحدي وأن تربيتي ومبادئي تسمو بي عن مستنقع الخلافات ومنحدر المهاترات، ولو فكر كل شخص في الانسحاب من البيئات المحفوفة بالأخطاء والتجاوزات و التحديات فمن سيبقى ليقوّم ويصحح الوضع ويعدل كفة الميزان!!
في الختام، يقول غازي القصيبي رحمه الله تعالى: “عندما يكون الأمر متعلقاً بالمصير (بأن يكون الإنسان أو لا يكون) فإن إرضاء الأشخاص لا يمثل أي أولوية على الإطلاق.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال