الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أدركت المملكة العربية السعودية مكانة الصين الاستراتيجية وأهميتها قبل أن ترتبط معها بعلاقة دبلوماسية عام 1990م، وذلك من خلال الاتفاق العسكري الشهير (صواريخ الشرق) الذي تم العام 1988م، ردا على رفض الولايات المتحدة الأمريكية بيع طائرات أف 15 ايقل للسعودية. ومنذ ذلك الحين، تطورت علاقة البلدين في كافة المجالات على نحو أثار حفيظة الولايات المتحدة الامريكية في السنوات الأخيرة، وما القمم الثلاث التي أقيمت للرئيس الصيني في الرياض خلال الفترة من 7 إلى 9 ديسمبر 2022، إلا تتويج لقوة العلاقة السعودية الصينية.
وقد صرح مسؤولون سعوديون أكثر من مرة، آخرها في مؤتمر دافوس 2023، أن الصين الشريك الاقتصادية الاستراتيجية للسعودية، لكن لماذا الصين؟.
قد يكفي القول إن الصين هي الشريك التجاري الأول للسعودية في جانبي الصادرات والواردات، ففي عشرة أشهر فقط من 2022 بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 358 مليار ريال، بصادرات 191 مليار ريال، وواردات 113 مليار ريال.
لكن المشهد أكبر من ذلك بكثير. فحسب دراسة حديثة لهارفارد يمثل إجمالي الناتج المحلي الصيني 18.3٪ من الناتج العالمي، بينما الأميركي 15.8٪، للعام 2020. ومن المتوقع أن يرتفع إلى 20٪ من الناتج العالمي بنهاية 2025، وينخفض الأميركي إلى 15٪ من الناتج العالمي. وتسيطر الصين على 13.1٪ من التجارة العالمية للعام 2020، في حين أن حصة الولايات المتحدة الأميركية 10.8٪.
وتعد الصين أكبر اقتصاد عالمي في حرية التجارة، ولا يمكن لدولة في العالم الاستغناء عن الصين كمنتج أو مستهلك. وتعتمد الصين على طريق الحرير الجديد البحري والبري، لربط الاقتصادات العالمية في آسيا وأوروبا بالصين وإبعادها عن الاقتصاد الأميركي.
تسيطر الصين على 97٪ من امدادات العالم من المعادن الخام النادرة الضرورية في الصناعات الحديثة، وعلى 80٪ من إنتاج الطاقة النظيفة في العالم، وهي رائدة العالم في صناعة السيارات الكهربائية، والمسيطرة على المواد الخام لإنتاجها، مثل اللثيوم 50٪، بوليسلكون 60٪ كوبلات 80٪.
في 2020 أصبحت الصين الأولى عالميا في امتلاك أكبر عدد من شركات الـ 500 ذات القيمة الأعلى في العالم بـ 124 شركة، تليها الولايات المتحدة بـ 121 شركة.
وفي مجال التقنية تحتل الصين المركز الأول، بإنتاجها 250 مليون كمبيوتر، 25 مليون سيارة، 1.5 مليار جهاز ذكي بنهاية 2020. وبحلول 2030 من المتوقع أن تحتل المركز الأول في إنتاج أشباه الموصلات بـ 25٪ من الإنتاج العالمي. وهي الآن منافس شرس لأمريكا في تقنية 5G، وصناعة الحاسبات العملاقة QI، والذكاء الاصطناعي، الذي تعد الصين متقدمة في بعض مجالاته، تحديدا الطبية.
وكل ذلك لا يجيب على سؤال، لماذا الصين مهمة استراتيجيا لدول العالم، والخطر الأكبر على الهيمنة الغربية، والأميركية تحديدا؟
لقرون والغرب يستغل ثروات العالم بأبشع الطرق، بدءا بالإنسان وانتهاءا بمعادن أعماق الأرض، دون أن يقدم للدول التي يهيمن عليها أقل القليل، حتى بعد انتهاء عصر الاستعمار، عادت شركات تلك الدول لتمارس نفس الدور الذي كانت تمارسه حكوماتها على البلدان المستعمرة، تحت غطاء التجارة. وبعد الحرب العالمية الثانية حملت أمريكا لواء استغلال ثروات العالم، وأضافت إلى أدوات الاستعمار القديمة أدوات جديدة، تمثلت في إنشاء واستغلال المنظمات الدولية، ووضع الأنظمة العالمية، التي تخدم المصالح الغربية بالدرجة الأولى، وربما فقط.
لكن القاعدة التي تقول: (أن التقدم والتنمية مرتبطان بتبني نظام سياسي ديموقراطي، ونظام اقتصادي رأسمالي، هي الوصفة السحرية والوحيدة للتنمية الشاملة) كانت الأخطر، لأنها تفرض منهجا واحدا للتنمية مرتبطا بالمبادئ الغربية، وتضمن سيطرتهم على العالم. ومارس الغرب كل ما يستطيع من ضغوط، لفرض وجهة نظره تلك. من خلال المنظمات الدولية، وبما تقدمه من مساعدات، ومن خلال الضغوط السياسية للدول الغربية مجتمعة، ومنفصلة. وباستخدام مراكز البحوث العلمية لتأكيد تلك الفكرة، بأكثر من طريقة، وبدعم كبير جدا من الألة الإعلامية الجبارة التي يمتلكها الغرب، بتلاعبها بالوعي العالمي.
ورغم فشل النظرية في كثير من الدول التي طبقتها في أميركا الجنوبية مثل الأرجنتين، وأفريقيا كنيجيريا الغنية بالموارد الطبيعية، وآسيا مثل اندونيسيا قبل أن ترتبط بالمشروع الصيني، إلا أن الضغوط الغربية على دول العالم، تزايدت بعد سقوط النظرية الاشتراكية الشيوعية بسقوط الاتحاد السوفيتي، لدرجة خلقهم ما أسموه (الفوضى الخلاقة) في العالم، وتحديدا في الشرق الأوسط، ودول أوروبا الشرقية، لإجبارها على تبني الخيار الغربي للحياة.
بروز الصين بذلك الشكل المذهل، وتقدمها لتصبح الأولى عالميا في جوانب كثيرة، خصوصا اقتصاديا، أول نتائجه وأكثرها ضررا بالمشروع الغربي، هو إسقاط النظرية القائلة (بترابط الديموقراطية والرأسمالية) كوصفة وحيدة (للتقدم والتنمية). وظهر بديل جديد، وهو المفهوم الصيني، الذي يقول بإن طبيعة النظام السياسي في حد ذاته ليست عاملا لازما لنجاح (الحرية الاقتصادية)، وليس (الرأسمالية) بالمفهوم الغربي، لتحقيق التنمية الشاملة. فالصين الآن تتقدم في معظم جوانب الحياة على الغرب، ومازالت في طريقها للتقدم.
وثانيا طرحت الصين نفسها شريكا اقتصاديا موثوقا ومجديا اقتصاديا لدول العالم، مغايرة بذلك نظام الشراكات الغربية التي كانت ومازالت تقوم على استغلال موارد الدول التي تدخلها دون أن تقدم لها شيء يذكر. وأفريقيا الشاهد الأكبر على ذلك، حتى الدولة الأفريقية الديموقراطية الأهم (جنوب أفريقيا)، انزاحت باتجاه الصين، بعد تأكدها من عدم مصداقية الغرب.
أخيرا توازن القوة الذي أحدثته الصين منذ العام 2013 تقريبا، بعد اختلاله بسقوط الاتحاد السوفيتي العام 1991م، خفف كثيرا من الضغوط عن دول العالم، وأعاد الغرب إلى جادة الصواب في تعاملهم مع العالم. بل إن الصراع الاقتصادي الصيني الأميركي وضع أوروبا نفسها بين حجري الرحى. وقد ظهرت نتائج الصراع الصيني الأميركي في زيارتي الرئيس الفرنسي لواشنطن، والمستشار الألماني لبكين في نفس الشهر (نوفمبر2022)، وفي تصريحاتهما قبل ذلك وبعده. كشكوى الرئيس الفرنسي خلال زيارته لواشنطن، من عدم عدالة دعم الشركات الأميركية لمواجهة الشركات الصينية، حيث أضر كثيرا بالشركات الأوروبية، والفرنسية تحديدا.
كما ظهر جليا تأثر أوروبا من القوة الصينية، والصراع الصيني الأميركي، من خلال مخالفتهم لمبادئ منظمة التجارة العالمية التي وضعوا مبادئها لخدمة شركاتهم، مثل حرية تدفق السلع والخدمات، وعدالة التعريفة الجمركية، وحرية الاستثمار في الدول الأعضاء. وتعد القوانين التي فرضها الرئيس الأمريكي ترامب ضد شركة هواوي الصينية أشهر الأمثلة لمخالفة الغرب لمبادئ منظمة التجارة العالمية، لإيقاف التقدم الصيني. فحتى العام 2001 كانت الصين تستجدي دخول منظمة التجارة العالمية، ثم لم تمر خمسة عشر سنة على إنظامها حتى أصبحت مبادئ المنظمة (الرأسمالية) تخدم الشركات الصينية أكثر من أي عضو أخر فيها بما فيهم أميركا وأروبا.
للأسباب الاقتصادية السابقة، ولأسباب سياسية وعسكرية، تعد الصين مهمة جدا استراتيجيا لاستقرار النظام العالمي. وتمسك القيادة السعودية بعلاقتها القوية بالصين ضرورة استراتيجية وتنموية للمملكة العربية السعودية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال