الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لا أحد منّا تقريباً إلّا وقد سمِعَ مقولةَ عنترة بن شدّاد المشهورة: “سرّ شجاعتي أنّني أضرب الضعيف ضربةً يطير لها قلب الشجاع”، وكأنّ عنترة يقول عوضاً عن الدخول في مناورة جريئة وخطيرة، مثل خوض معركة مع شجاع آخر، اختر الطريق الأسلم والأقصر، وهو ضربُ أضعفِ مَن في المعركة. ولعلّ شركات التأمين تعلّمت من قول عنترة هذا، وذلك بعد تقديمها خلالَ عددٍ من السنوات أداءً مخيِّباً للآمال، عاجِزةً عن اتّخاذ قرارات جريئة، مثل الدخول في اندماجات، أو الابتكار، أو تطوير ورفع كفاءتها، أو اللجوء إلى الأساليب الحديثة، مثل الذكاء الاصطناعيّ، فاختارت الطريق الأسهل، وهو المستهلك؛ لتُحمِّلَه هذا الأداء المتواضع، حتّى لو خلا سجلّه من المخالفات أو الحوادث السابقة.
تبرّر الشركات رفعها للأقساط بارتفاع الحوادث المروريّة في المملكة المتناقِضِ تماماً مع التقارير الرسميّة الحكوميّة، حيث أكّد حديث وزير الداخليّة مثلاً انخفاض عدد الوفيات المروريّة بنسبة ٥١٪، وأشار حديث مدير الإدارة العامّة للمرور، العميد المهندس علي الزهرانيّ، إلى انخفاض الحوادث المروريّة إلى 50%، وهذا ما يؤكّده أيضاً حديث د. إبراهيم الضبيب، رئيس مجلس جمعيّة أمان عن الحوادث المروريّة. إذاً، تشير كلّ التقارير إلى الانخفاض، إلّا أرقام شركات التأمين التي أخذت طريق عنترة المختصر.
وكلّما ارتفعت الأصوات لضبط هذا القطاع، خرجت شركات التأمين بحيلٍ أصبحت مكشوفةً لطمأنة صانع القرار أنّ القطاع في تحسُّن، أو أعلنت عن صفقات اندماجات بين شركات التأمين ستخفّض التكاليف التشغيليّة، ومنها سيأتي التخفيض في الأسعار. ولكن، تمرّ الأيّام، وتفشل هذه الشركات في إتمام تلك الصفقات لأسباب غير منطقيّة، وغير واضحة، والتي أشكّ أنّها خلافات شخصيّة إداريّة على المناصب أو التقييم، لا سيّما مع وضوح النزيف الماليّ لتلك الشركات، فما الذي يعيق شركات التأمين عن الاندماج؟ وهل تستغفلنا تلك الشركات بهذه المسكّنات والمهدّئات؟ وهل سيكون لدى الهيئات ذات العلاقة، وتحديداً هيئة المنافسة، القدرة على ضبط تصرّفات تلك الشركات المندمجة ومواءمتها مع نظام المنافسة إذا ما تمّت هذه الاندماجات، لا سيّما وأنّ تقارير الهيئة تشير إلى أنّ 83% من قطاع التأمين متكتّلٌ ضمن 3 شركات؟ فإذا لم يكن ذلك احتكاراً، أو احتكاراً بسبب القلّة، فماذا يسمّى؟ نحن لا نطلب من هيئة المنافسة التدخّل بشكل مباشر في السوق، وتوزيع الحصص السوقيّة، ولكن، أن تمارس على الأقلّ دور الحكم، لا سيّما أنّ نظامها ولائحته يعطيها تلك المفاتيح، وخيارات قانونيّة واسعة تسمح حتّى بإجبار تلك الشركات على بيع بعض الحصص السوقيّة كما أشرتُ في مقال سابق. ومن المهمّ في هذه اللحظة معرفة مكان وقوف هيئة المنافسة السعوديّة، وإذا كان ما قامت به شركات التأمين من رفعٍ للأسعار مخالِفاً لنظام هيئة المنافسة، أو ربّما جريمة تواطُؤ تستدعي التحقيق، فهناك دورٌ كبيرٌ مُلقى على هيئة المنافسة في حماية المنافسة، ومنع الممارسات الاحتكاريّة، كما تشير المادة الأولى من نظام المنافسة.
وليس هناك من عيب إن استعانت هيئة المنافسة بأحد مكاتب المحاماة السعوديّة في إجراء تحقيقها، على غرار بعض الهيئات الحكوميّة الأمريكيّة في بعض القضايا المعقّدة. ويمكن للهيئة توزيع نسب الغرامات، فيكون -على سبيل المثال- نصيبُ مكتب المحاماة 30% من الغرامات المحصَّلة من الشركات المخالِفة، أو ٢٠٪ من الغرامات على الأفراد، وهكذا. وللأسف مع ازدياد خسائر الشركات الأخرى الصغيرة الرافضة الدخول في اندماج، وبهذا النزيف الماليّ والخسارة، تزداد حصص الشركات الأخرى المسيطرة على السوق، وهذا ما يزيد الوضع سوءاً. وما دمنا نتحدّث عن هيئة المنافسة، فهناك تساؤل عن مصير الشكوى المرفوعة من الغرفة التجاريّة الصناعيّة في الرياض ضدّ شركات التأمين منذ عام ٢٠٢١، والتي يشير موقع الهيئة -للأسف- إلى أنّها ما زالت تحت “البحث والتقصّي”.
ولا ننسى دور هيئة سوق المال، فتلك الشركات تعدّ مدرَجة وهناك الالتزام ما بالإفصاح، فهل على الهيئة معاقبتها إذا ما أعلنت أنّ الحوادث هي سبب رفع الأسعار، وتبيّن لاحقاً عدم مصداقيّة ذلك الإعلان؟ وأخيراً، يقع الدور الكبير على عاتق البنك المركزيّ في تنظيم هذا القطاع الحيويّ، وجذب الشركات الأجنبيّة للدخول والمنافسة فيه. ولعلّ بإمكان البنك اتّخاذ خطوات شجاعة في الوقت الراهن مثل إعادة هيكليّة الشركات، مثل طلب رأس مرتفع لشركات التأمين، ورفع الحدّ الأدنى لرأس المال؛ لجبر تلك الشركات على الاندماج. وحتّى لو أخذنا على محمل الجدّ كلامَ شركات التأمين حول سبب ارتفاع أقساط التأمين الذي ينسبونه إلى ارتفاع نسبة الحوادث والتحايل، والذي يخالِف تماماً التصريحات الرسميّة، ستبقى هناك -باعتقادي- حاجة ضروريّة إلى وجود دراسات، وإنشاء قاعدة معلوماتيّة واضحة لدى صانع القرار حتى يكون القرار اكتوارياً دقيق. ومن هنا يأتي دور جمعيّة حماية المستهلك في تقديم مثل هذه الدراسات، فضلاً عن تمثيل أصحاب المصلحة، وأعني المؤمَّن عليهم، في مواجهة شركات التأمين.
وختاماً، يتبيّن للقارئ تداخل الهيئات التنظيميّة والتشريعات. لهذا، هناك حاجة ملحّة إلى وجود هيئة مستقلّة مشرِفة على تطوير وتنظيم هذا القطاع المهمّ. ولهذا السبب تحدّث معالي الوزير الجدعان عن أنّ قطاع التأمين لم يصل إلى طموح الحكومة، وأكّد ضرورةَ تشكيل جهةٍ تنظّم هذا القطاع، وهيئةٍ لتطويره، مسانِدين بذلك المستهلكَ الذي أصبح الحلقة الأضعف ضمن شركات التأمين التي تضعه بين خيارَين أحلاهما مرّ، هما التأمين، أو عدم التأمين.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال