الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في المقالين السابقين، تحدث عن الفساد في القطاع الصحي، ومدى صعوبة محاربته بسبب اختلاف خصائص هذا القطاع عن القطاعات الاخرى. كما نعلم أن المملكة العربية السعودية متجهة الآن إلى تخصيص من القطاعات الخدمية وذلك في سبيل التصحيح الاقتصادي. وكما نعلم أن التخصيص كفكرة، يهتم في جله على رفع جودة الخدمات وتقليل الإنفاق الحكومي. وبرز هذا النظام بشكل كبير في عهد رئيسة بريطانيا مارغريت تاتشر عندما كانت تعاني الحكومة البريطانية من ازمة اقتصادية، فكان الحل لتقليل النفقات هو التخصيص. ولكن المشكلة، أن كثير من المشاريع يكون لها أهداف سامية ومثالية، ولكن أثناء التطبيق، يصيب هذه المشاريع احداث تجعلها تحيد عن اهدافها. لذلك التخصيص يعتبر من أكثر المشاريع الحساسة والتي اجزم انها من أصعب المشاريع التي يمكن تنفيذها بكفاءة عالية كما هو مطلوب. وبما أننا في خضم مثل هذا المشروع في المجال الصحي، فمن المهم النظر الى تحديد أهم الاحتياجات التشريعية والنظامية والإدارية من أجل تقديم الخدمات الصحية بكفاءة عالية كما هو مأمول. لذلك، اعتقد يجب بداية، التعرف على اهم اربع انظمة تخصيص في القطاع الصحي، نستهل بها مقالات اخرى في هذا الشأن.
اول هذه الانظمة هو نموذج Beveridge والذي تم تسميته على من طرح فكرته لأول مرة. في عام 1909 نشر تقرير الأقلية الصادر عن اللجنة الملكية لقانون الفقراء. واستمر الباحثين بالعمل لإيجاد حل لمشكلة الرعاية الصحية في بريطانيا إلى عام 1942. حيث تم نشر تقرير حكومي أعده الاقتصادي البريطاني ويليام بيفردج “Beveridge ” تحت عنوان التأمين الاجتماعي والخدمات المرتبطة به. في هذا التقرير، اقترح نظامًا وطنيًا للرعاية الصحية من شأنه أن يوفر العلاج الطبي المجاني للجميع ويتم دفع تكاليفه من خلال الضرائب. بالطبع، لم يتم اقتراح بيفردج بالشكل الذي ادى التغيير السياسي والتشريعي الى ان اتى ناي بيفان ، وهو سياسي شغل منصب وزير الصحة في بريطانيا، ويُنسب إليه الفضل على نطاق واسع في تأسيس خدمة الصحة الوطنية (NHS). خدم تحت قيادة حزب العمال كليمنت أتلي ، الذي فاز في الانتخابات على ونستون تشرشل إلى حد كبير بسبب وعود الحملة القائمة على تقرير بيفريدج. بعد توليه منصبه ، واجه بيفان معارضة شرسة من السياسيين الآخرين وكذلك الجمعية الطبية البريطانية (BMA). ولكن بعد مفاوضات وحملات مطولة، تم تمرير قانون الخدمات الصحية الوطنية في عام 1946 ، لإنشاء NHS. وهنا أنجب المملكة المتحدة أول نماذج الرعاية الصحية القائمة على نظام التخصيص
في هذا النموذج، يتم دفع تكاليف الرعاية الصحية بالكامل تقريبًا من خلال الضرائب ويتم تقديم الرعاية الصحية من خلال الحكومة. بمعنى ان مرافق الرعاية الصحية مملوكة للحكومة ويتم توظيف مقدمي الرعاية الصحية من قبل الحكومة. يُنظر إلى الرعاية الصحية على أنها مسؤولية الحكومة ، ولكنها ممولة من الضرائب.
من المهم أن نلاحظ، أن هناك استثناءات لهذا النموذج في الرعاية الصحية البريطانية. من أبرزها أن غالبية مقدمي الرعاية الأولية ، الذين يطلق عليهم الممارسين العامين يمتلكون عياداتهم الخاصة او مستشفيات خاصة وهي ربحية بالكامل وليست مدعومة من الحكومة بأي شكل من الأشكال. غالبية الصيدليات ايضا مملوكة للقطاع الخاص. بالإضافة إلى المملكة المتحدة، يطبق هذا النموذج نيوزيلندا وفنلندا وإسبانيا.
النموذج الثاني هو نموذج بسمارك. أوتو فون بسمارك مؤسس الإمبراطورية الألمانية او ما يسمى بـ الرايخ الألماني وكان وأول مستشار لها. شغل منصب مستشار من 1871 إلى 1890. ونشأ نظام الرعاية الصحية الذي سمي الآن باسمه من سلسلة من الأزمات الاقتصادية التي واجهتها الإمبراطورية الألمانية خلال فترة ولايته. أدت هذه الأزمات إلى خلق ظروف معيشية قاسية ، خاصة بين فقراء المدن والقرى، مما دفع بسمارك لاقتراح نظام تأمين صحي وطني في عام 1881. أقر المجلس التشريعي هذا النظام في عام 1883.
بموجب هذا النظام ، يتم تمويل الرعاية الصحية وتقديمها من القطاع الخاص، بدلاً من استخدام الأموال العامة التي يتم تلقيها من خلال الضرائب والعيادات المملوكة للحكومة لتقديم الرعاية. بمعنى أن الدولة ليست مسؤولة عن تمويل القطاع الصحي، والمسؤول عن تمويل هذا القطاع هم الموظفون وأرباب العمل من خلال إنشاء شركات تأمين صحي ودفع أقساط التأمين لهذه الشركات ، التي يطلق عليها “صناديق المرض”، من خلال اقتطاعات إلزامية من كشوف رواتب الموظفين. ثم تقوم صناديق المرض هذه بتعويض المرافق التي تقدم الرعاية.
بينما طورت ألمانيا نظام بسمارك للرعاية الصحية الأصلي ، ولازال هناك دول تستخدم هذا النموذج مثل اليابان وفرنسا وجمهورية التشيك وكوريا الجنوبية.
النوع الثالث هو نموذج التأمين الصحي الوطني. يعتبر نموذج التأمين الصحي الوطني مزيجا بين نموذج بيفردج و نموذج بيسمعوك.
في هذا النوع من النظام، تمول الحكومة خدمات الرعاية الصحية، والتي يتم دفع ثمنها من خلال الضرائب ، على غرار نموذج بيفردج. ومع ذلك، يتم تقديم خدمات الرعاية الصحية، في الغالب من خلال المستشفيات الخاصة والتي تأخذ قيمة العلاج من شركات التأمين، على غرار نموذج بسمارك. وبالتالي، تقريبا معظم أفراد المجتمع يكون لديهم تأمين صحي، ولكن المشكلة تكمن في مقدار التغطية التي يغطيها التأمين.
ربما يكون المثال الأكثر بروزًا لدولة تستخدم هذا النموذج هو كندا. هناك ، يتلقى السكان خطط تأمين إقليمية تمولها كل من الحكومة الفيدرالية وحكومات المقاطعات، والتي تستخدم في الغالب في العيادات والمستشفيات الخاصة.
آخر نموذج هو نموذج غير المؤمن عليهم.وهنا لا يوجد تأمين صحي، و يتم تقديم خدمات الرعاية الصحية للأشخاص الذين يمكنهم دفع ثمن تلك الخدمات من جيوبهم. وهنا تكون الرعاية الصحية فقط للمقيمين والمواطنين القادرين على الدفع لتلقي الرعاية الصحية ، بينما أولئك الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف الرعاية لا يحصلون عليها.
وبالطبع، في جميع النماذج السابقة، هناك استثناءات من حيث تقديم العلاج المجاني. على سبيل المثال ، اعتمادًا على البلد ، قد تقدم المؤسسات غير الربحية الرعاية الخيرية لغير المؤمن عليهم ، أو قد تقدم الحكومة مراكز رعاية صحية و تقديم اللقاحات الضرورية مجانًا. ومع ذلك، فإن السمة المشتركة بين النماذج الأربعة هي أن الرعاية الصحية الشاملة تذهب في المقام الأول إلى أولئك الذين يستطيعون الدفع.
هذا الاستعراض السريع يهدف الى تسليط الضوء الى ان مكافحة الفساد في القطاع الصحي يكمن في معرفة من هو الممول للقطاع، ومن هو المتصرف في هذه الأموال، ومن هو المستفيد؟ والمستفيدون هنا كُثر، ومن هذا المنطلق نستطيع تحديد الاحتياجات التشريعية والتنفيذية من أجل تحقيق خصخصة متكاملة تحقق الأهداف السامية من هذا التصحيح الاقتصادي والاداري.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال