الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يعدّ الارتفاع المستمر لمعدلات التضخم من أهم المخاطر التي تحيط بمستقبل أي اقتصاد، لاسيما في حال كان الارتفاع مصحوبًا بنمو اقتصادي أبطئ وهو ما يمكن أن يفضي إلى العديد من الانعكاسات السلبية على الحكومات والشركات والأفراد. تهدّد موجة التضخم التي يشهدها العالم اليوم مستقبل الاقتصاد العالمي والتي تأتي متزامنة مع توقعات سلبية لأداء معظم الاقتصادات حول العالم قد تؤدي إلى ركود عالمي في عام 2023م ودخول الاقتصاد العالمي إلى ما يعرف في الأدبيات الاقتصادية بحالة الركود التضخمي وهي الحالة التي يشهد فيها الاقتصاد نموًا ضعيفًا ومعدلات بطالة مرتفعة مصحوبة باتجاهات صاعدة أيضًا لمستويات الأسعار. أوضح تقرير “آفاق الاقتصاد العالمي” الصادر عن صندوق النقد الدولي في أكتوبر من العام 2022م بعنوان “التصدي لأزمة تكلفة المعيشة” أن الاقتصاد العالمي سوف يشهد حالة من التباطؤ تفوق المتوقع من قبل الاقتصاديين، ويعزى هذا التباطؤ إلى الارتفاع المستمر لمعدلات التضخم عالمياً لتصل إلى مستويات لم يشهدها العالم منذ عقود. توقع التقرير أن معدلات التضخم المرتفعة والتي تغذيها الاضطرابات الجيوسياسية وظروف الحرب الروسية الأوكرانية بالإضافة إلى تداعيات جائحة كورونا وسياسات الحكومة الصينية لاحتواء المرض سوف ترفع من تكلفة المعيشة عالميًا بشكل غير مسبوق. وتنبأ التقرير أن الاقتصاد العالمي سوف يدخل مرحلة من التباطؤ عبر تراجع معدلات النمو الاقتصادي من 6% في عام 2021م إلى 3.2% في عام 2022م ثم إلى 2.7% في عام 2023م، وهو معدل النمو الأضعف منذ عام 2001م وذلك إذا ما استثنينا الأزمة المالية العالمية وجائحة كورونا. وأكد التقرير أن معدلات التضخم عالمياً ستقفز من 4.7% في 2021م إلى 8.8% في 2022م قبل أن تهبط إلى 6.5% في 2023م. من جهة أخرى أكد تقرير المخاطر العالمية 2023م الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي توقعات صندوق النقد الدولي، حيث تصدر الارتفاع في تكلفة المعيشة أهم المخاطر العالمية خلال العامين المقبلين، حيث تواجه الحكومات تحد كبير للحفاظ على التوازن بين حماية مواطنيها من أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة وخطورة الدخول في منطقة الانكماش الاقتصادي. قد يكون من المفيد البحث في الأسباب الحقيقية التي أدت إلى الارتفاعات غير المسبوقة في معدلات التضخم خلال عام 2022م وطريقة تعامل البنوك المركزية لكبح جماح معدلات التضخم وأهم الآثار الاقتصادية لهذه السياسات النقدية على الاقتصاد العالمي والاقتصاد المحلي.
بشكل عام، هنالك نوعان أساسيان للتضخم:
أعلن مجلس الاحتياطي الفيدرالي عن زيادة سعر الفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية في شهر مارس 2022م وهي الزيادة الأولى منذ ما يقارب عامين وذلك بعد سلسلة تخفيضات قام بها البنك الفيدرالي الأمريكي لأسعار الفائدة على الأموال الفيدرالية حتى وصلت إلى الصفر في محاولة للتخفيف من الآثار الاقتصادية السلبية لجائحة كورونا، كما أوضح البنك الفيدرالي أنه سوف يستمر في رفع معدلات الفائدة لاحتواء الارتفاعات الكبيرة في معدلات التضخم التي وصلت في أعلى مستوياتها إلى ما يقارب 9% على أساس سنوي وهو الأعلى خلال الأربعين عاماً الماضية والتزامه الكامل بخفض هذه النسبة إلى المعدل المستهدف قرابة 2%. من المهم جداً معرفة الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات غير مسبوقة وخلال فترة زمنية قصيرة والتي يمكن تلخصيها على النحو التالي:
من الجدير بالذكر أن موجة التضخم ازدادت وتيرتها خلال عام 2022م تتضمن تضخمًا ناتجًا عن ارتفاع مستويات الطلب “Demand” نتيجة للحزم التحفيزية، بالإضافة إلى تضخم ناتج عن ارتفاع التكلفة “Cost-Push Inflation” نتيجة للأسباب الأخرى مثل اختلال سلاسل الإمداد.
كانت استجابة البنوك المركزية لكبح جماح معدلات التضخم متفاوتة سواء من ناحية الحدّة والدرجة في تشديد السياسات النقدية ورفع نسبة الفائدة أو من ناحية السرعة في إقرار وتفعيل تلك السياسات. فعلى سبيل المثال، تعرّض البنك الفيدرالي الأمريكي للكثير من النقد من قبل الاقتصاديين والمستثمرين نتيجة لتأخره في التدخل لاحتواء معدلات التضخم في البداية وتأكيده على أن موجة التضخم هي موجة قصيرة المدى وسوف تزول بسرعة، تعهّد البنك الفيدرالي لاحقًا بالقيام بسلسلة من الارتفاعات في معدل الفائدة حتى يتم السيطرة على التضخم ضمن المستويات المقبولة والمستهدفة وذلك بعد أن أدرك صنّاع السياسة النقدية الأمريكية أن أزمة التضخم قد تستمر لفترة أطول من المتوقع. وعلى غرار الفيدرالي الأمريكي، قام عدد من البنوك المركزية الأخرى حول العالم بتشديد مماثل للسياسات النقدية
ورفع أسعار الفائدة بما في ذلك البنك المركزي الأوروبي، بنك كندا وبنك إنجلترا لكبح جماح التضخم من جهة وللمحافظة على مصداقية وفاعلية أدوات السياسات النقدية التي تعتمد عليها هذه البنوك المركزية للمحافظة على استقرار الأسعار.
لتحليل الأثر المتوقع لارتفاع معدلات التضخم وأسعار الفائدة العالمية على اقتصاد المملكة، قد يكون من المفيد تسليط الضوء على واقع الاقتصاد السعودي خلال عام 2022م وأيضاً على القنوات المحتملة لتأثير مثل هذه الارتفاعات العالمية على الاقتصاد السعودي مع أخذ ارتباط السياسة النقدية في المملكة بالسياسة النقدية الأمريكية (نظرًا للربط في سعر الصرف بين الريال السعودي والدولار أمريكي) بالحسبان
أوضحت مشاورات المادة الرابعة لعام 2022م لصندوق النقد الدولي مع المملكة العربية السعودية أن الاقتصاد السعودي حقق نمواً قوياً خلال عام 2021م وصل إلى 4% تقريبًا بعد حالة الركود خلال جائحة كورونا، وذلك جراء الحزم التحفيزية المقدمة من الحكومة والبدء في جني ثمار تطبيق بعض برامج رؤية المملكة 2030. أسهم ارتفاع أسعار النفط أيضًا في تحسين مركز المالية العامة وانخفاض معدلات البطالة. كما توقع الصندوق أن تبلغ معدلات التضخم 2.8% في عام 2022م (متوسط التضخم السنوي المنشور من قبل الهيئة العامة للإحصاء للعام 2022م بلغ 2.5%) وهي معدلات مقبولة جداً في ظل معدل النمو المرتفع والذي يعتبر الأعلى بين دول العشرين. وبالنظر إلى المستقبل فإن النمو المتوقع لاقتصاد المملكة في عام 2023م يقارب 3.7% ومعدل تضخم يصل إلى 2.2%. وبالنظر إلى توقعات الصندوق لمعدلات النمو والتضخم خلال عامي 2022م و2023م، نستطيع استنتاج أن اقتصاد المملكة استطاع تفادي حالة الركود التضخمي التي تعاني منها كثير من الاقتصادات العالمية خصوصاً المتقدمة خلال 2022م و2023م. بالنسبة لأسعار الفائدة في المملكة وبحكم ارتباط الريال السعودي بالدولار الأمريكي فقد قام البنك المركزي السعودي بمجاراة الفيدرالي الأمريكي ورفع أسعار الفائدة المحلية عبر رفع (اتفاقية إعادة الشراء “الريبو” واتفاقية إعادة الشراء المعاكس “الريبو العكسي”) بنفس وتيرة رفع الفيدرالي الأمريكي للمحافظة على الاستقرار النقدي والمالي.
تعتمد الآثار المتوقعة لرفع أسعار الفائدة على الاقتصاد السعودي بشكل عام على جوانب عدة أهمها الدافع خلف رفع أسعار الفائدة مثل التضخم أو النمو القوي، وفي حالة الاقتصاد السعودي وكما أسلفنا فإنه يقوم بمجاراة الفيدرالي الأمريكي ولهذا يمكن التغاضي عن هذا الجانب. (بينما الجانب الآخر المهم لتحديد الأثر الاقتصادي لرفع أسعار الفائدة هو في طبيعة المرحلة من الدورة الاقتصادية للاقتصاد السعودي التي تم عندها رفع سعر الفائدة، مع الأخذ بالاعتبار ليس بالضرورة أن يكون الاقتصاد السعودي والأمريكي يمرون بنفس المرحلة الاقتصادية سواء نمواً أو انكماشاً.
من الجيد أن رفع نسب الفائدة التي قام بها البنك المركزي السعودي خلال عام 2022م وهو العام الذي حقق فيه الاقتصاد السعودي أعلى معدلات النمو عالمياً متفوقاً على اقتصادات كبيرة كالهند والصين مما يخفف من الآثار السلبية (تباطؤ النمو) لمعدلات الفائدة المرتفعة نسبياً على مستوى الاقتصاد الكلي.
أما على مستوى القطاعات، فقياس الآثار المتوقعة لأسعار الفائدة قد يكون متباين بشكل كبير حسب نوع القطاع وأن كان في الغالب له آثار سلبية، فعلى سبيل المثال قد يكون قطاع البنوك من أكبر المستفيدين من رفع أسعار الفائدة وذلك بسبب ارتفاع تكاليف الإقراض. عكس القطاعات التي تعتمد بشكل كبير على الاقتراض من البنوك (Zero sum game).
ختاماً يجب الإشادة بالجهود التي قامت بها الحكومة ممثلة بالسياسات المالية والنقدية للتقليل من الآثار المتوقعة لمعدلات التضخم وأسعار الفائدة عالمياً على الاقتصاد السعودي، حيث أوضح وزير المالية أن المملكة من أوائل الدول التي توقعت حدوث أزمة في الأسعار عالمياً وعلى ضوءه اتخذت العديد من الإجراءات والسياسات الاستباقية للتقليل من آثار هذه الازمة داخلياً مثل وضع سقف أعلى لأسعار الوقود.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال