الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لكل سوق عمل شخصية تميزه عن غيره من الأسواق الأخرى. وتلك الشخصية تتكون عبر الزمن بناء على ثلاث عوامل رئيسية، وعوامل أكثر فرعية. العوامل الرئيسية هي، مبادئ وعادات وتقاليد وقيم المجتمع أو الدولة. العامل الثاني طبيعة القطاعات الاقتصادية الرئيسية التي تسيطر على اقتصاد البلد. وأخيرا الأنظمة والقوانين التي تحكم السوق.
وسوق العمل السعودي لم يصل بعد لشخصيته الأخيرة التي يجب أن يكون عليها في المستقبل حسب رؤية 2030، بعد أن تخلى عن الشخصية الأولى أو القديمة، ويعيش الآن الشخصية المتحولة الهجين غير الناضجة.
الشخصية الأولى أستطيع تسميتها الشخصية (السيامية) لأن السوق خلال تلك الفترة التي بدأت مع الطفرة الأولى منتصف السبعينيات الميلادية من القرن الماضي، إلى أن أطلق سمو ولي العهد رؤية السعودية 2030. تميز السوق فيها بوجود جسدين (هيكلين) كاملي البنية، برأسين منفصلين، لكل منهما صفاته المستقلة عن الأخر تماما، ضمن (جسد) سوق واحد. ولشدة تباينهما، كان كل منهما يعمل في (زمن) مختلف عن الأخر، فالقطاع العام يعمل بالتاريخ الهجري، والخاص يعمل بالتاريخ الميلادي. وكان لهذا التباين في استخدام تاريخين مختلفين في سوق عمل واحد مشاكل كبيرة، عملية واجتماعية.
الهيكل الأول هو القطاع العام، أو الحكومي، الذي يمثل مؤسسات الدولة، وينطبق عليها نظام العمل الحكومي، والمؤسسة العامة للتقاعد. يتميز هذا الهيكل من الشخصية الأولى، برواتب عالية نوعا ما، أمان وظفي تام من التسريح، بل وحتى من الخصم، بغض النظر عن الأداء الوظيفي للعامل، أو الظروف الاقتصادية للبلد، إلا في حالات نادرة جدا.
كما يتميز هذا الهيكل من السوق بالاستقرار المستقبلي، بوجود سلم وظيفي واضح طوال فترة الخدمة، بعلاوات وترقيات وحوافز. وبيئة عمل أبوية ودية، يغلب عليها الطابع القبلي فـ (تكفى و إبشر، وأفا) أهم وسائل حل المشكلات الإدارية. ساعات العمل ثمان ساعات كحد أقصى، والفعلية أقل منها، فالتأخر في الحضور والانصراف المبكر أمر معتاد، والإنتاجية نوعا ما منخفضة.
ولأن معظم العاملين السعوديين يتركزون في هذا الهيكل من السوق، فقد تكونت لديهم عادات عمل كسولة، متواكلة، وغير منضبطة. كان لها أثر سلبي في الصورة النمطية عن العامل السعودي، حتى بعد تغيرها فعليا في السنوات الأخيرة للأسف. ومعظم أعمال هذا القطاع كتابية وإدارية، والجوانب المهنية داخله يتم الاستعانة فيها بالقطاع الخاص غالبا، لذلك يفتقد العاملون في هذا القطاع للكثير من المهارات المهنية.
الهيكل الثاني هو القطاع الخاص، الذي يمثل مؤسسات القطاع الخاص، بكافة أشكالها، من الفردية حتى الشركات المساهمة، وينطبق عليها نظام عمل القطاع الخاص، ومؤسسات التأمينات الاجتماعية. ورواتبه بشكل عام منخفضة، وتحديدا في الوظائف المتوسطة والدنيا.
الأمان الوظيفي منخفض مقارنة بالقطاع الحكومي، فالاستمرار في العمل مرتبط (نوعا ما) بالأداء الوظيفي، والعلاقة بصاحب العمل أو الإدارة. ويتأثر الاستمرار في العمل بالعوامل الاقتصادية للمؤسسة بشكل مباشر. لكن أشد عيوب هذا القطاع في تلك المرحلة عدم وضوح المستقبل الوظيفي، لعدم وجود علاوات وترقيات محددة مسبقا، في معظم الشركات، خصوصا المتوسطة والصغيرة منها.
معظم العاملين في هذا الهيكل من غير السعوديين، لذلك كانت أنظمة العمل بسيطة ومحدودة، وتعطي صاحب العمل حقوق شبه كاملة في تنظيم عمله، كبداية الدوام ونهايته، وعدد ساعات العمل الفعلية، والاجازات المختلفة، وحتى مدى ملاءمة بيئة العمل من عدمها. وكون معظم قيادات القطاع الخاص من غير السعوديين، فقد استنسخت كل قيادة أنظمة العمل في بلدانها، لذلك كانت بيئة العمل في القطاع الخاص متباينة جدا من مؤسسة لأخرى، يغلب عليها القساوة، ويصعب على الموظف السعودي تحملها. بينما الإنتاجية، والانضباط عاليين.
لكل ذلك يفضل السعوديون العمل في القطاع العام، ولا يفكرون بالعمل في القطاع الخاص مطلقا، وأن حدث فمجرد مرحلة حتى الانتقال للقطاع للعام. وهذا أحد أهم أسباب التكدس في طوابير العاطلين انتظارا للعمل الحكومي المحدود.
ومن أهم نتائج تلك الشخصية (السيامية) للسوق، أولا ابتعاد العامل السعودي عن الأعمال المهنية الإنتاجية التي يسيطر عليها القطاع الخاص. وبالتالي عدم رؤية الفرص الكبيرة في القطاع الخاص من خلال العمل التجاري الأكثر عائدا من الوظائف العادية غالبا. لذلك تحكم العامل غير السعودي في مفاصل الاقتصاد الإنتاجية. وقد وصل الأمر أن أصبحت بعض قطاعات الاقتصاد تحت السيطرة الأجنبية الكاملة، ما مثل خطرا كبيرا على الأمن القومي السعودي، كقطاع الكهرباء في السابق.
ومن النتائج السيئة لذلك الفصل أيضا، صعوبة دخول العامل السعودي للقطاع الخاص، وبالتالي ارتفاع معدل البطالة بين السعوديين. فبعد اكتفاء القطاع الحكومي من التوظيف، أصبحت الوظائف المتاحة فيه محدودة جدا، مقارنة بطالبي التوظيف من السعوديين. ولأن العمالة غير السعودية تسيطر على القطاع الخاص تماما، وتتحكم فيه، لدرجة أن أصبحت المالك الحقيقي لمعظم المؤسسات المتوسطة والصغيرة، تحت غطاء ما يعرف بـ (التستر)، لذلك تحكموا في التوظيف، وأنظمة العمل، ولو بشكل غير مباشر، وبالتالي التحكم في كل مفاصل السوق في هيكله الثاني.
يضاف إلى ذلك ضعف تنقل العاملين بين الهيكلين. فالحركة بينمها، لها نمطية محددة تحفظ لكل هيكل شخصيته. فالانتقال من القطاع الخاص للعام يكون للوظائف المتوسطة والصغيرة، في حين أن الانتقال من العام للخاص يكون للتخصصات المهنية الدقيقة كالأطباء والمهندسين، أو الإدارات العليا. أي أن القطاع الخاص يأخذ من العام بعض أفضل ما لديه، بما لا يخل بهيكلية السوق.
أخيرا، ابتعاد العامل السعودي عن العمل في القطاعات الإنتاجية الفعلية أفقده الكثير من المهارات المهنية والإدارية، والشخصية التي تمكنه من منافسة غير السعودي في الوظائف الأساسية والقيادية والحساسة. ويمكن استثناء العاملون في أرامكو، وسابك، والكهرباء لاحقا. وذلك أحد أهم أسباب تكون الشخصية الثانية للسوق التي نراها اليوم.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال