الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
ليست المرة الأولى التي تستأنف السعودية وايران علاقاتها الدبلوماسية، ويتصالح البلدان رغم الخلافات السياسية والعرقية والمذهبية، ودائما كانت العلاقات بين البلدين تتسم بالاحتقان الشديد، وتنتهي فترة المقاطعة ويعود البلدان من جديد باتفاقيات والتزامات، وفي كل مرة تتوتر العلاقة بين الطرفين ويكون السبب فيها الجانب الإيراني، إما لتدخل في الشؤون المحلية السعودية، وتنظيمات الحج وأحداث الشغب التي كانت تشهدها مواسم الحج من قبل الحجاج الإيرانيين، وإصرار الحكومة بضرورة رفع شعارات سياسية ورفض الداخلية السعودية ذلك والتأكيد على جعل موسم الحج خاليا من أي شعارات سياسية، وربما كان للتدخل المباشر من الحكومة الإيرانية في بعض الأحداث، كان سببا في تأجيج الشارع وهو ما أدى الى توتر العلاقة اكثر من مرة، وربما ما حدث في 2016 من هجوم على البعثات الدبلوماسية السعودية في ايران، وتحريضها ودعمها لأطراف خارجية في اكثر من دولة من اجل الحاق الضرر بالسعودية.
هذه المرة تختلف الأحوال والظروف حينما تستأنف العلاقات من جديد وترفع الأعلام على مبنى السفارتين في طهران والرياض، فهي لا تشبه سابقتها، ولادة عودة العلاقات قطعت أشواطا عديدة في المباحثات بين الطرفين، وتنقلت ما بين سلطنة عمان والعراق وأخيرا استكملت في الصين، ويبدو أن الطرف السعودي أراد هذه المرة أن يكون الاتفاق مبني على الصراحة والوضوح، بعدما تكررت التجاوزات من الجانب الإيراني في المرات السابقة وهي دعم الجماعات الإرهابية في زعزعة الأمن السعودي وهو ما كان يقلقها ويسبب لها الإزعاج، حيث استعانت ايران بجماعات وأحزاب للعب هذا الدور وقدمت لهم الدعم المالي واللوجستي.
حينما تصافح السعودية إيران من جديد فهو ليس ضعفا أو تنازلا إنما ضمن استراتيجية واضحة كما عبر عنها وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان وقال “أن هذه الخطوة تأتي تحت رؤية المملكة العربية السعودية تحقيق الحلول السياسية وتعزيز الحوار في المنطقة” ومن منطلق إن الدول المجاورة تشارك مصير واحد، ولذلك فإن التشارك والتعاون بينها يعد ضرورياً لبناء نموذج مستقر ومزدهر يعود بالنفع على جميع البلدان وسكانها.
المراقب للملكة العربية السعودية في الخمس السنوات الأخيرة سيجد أنها منشغلة تماما في إعادة هيكلة مؤسساتها الحكومية والأهلية، وجل برامجها موجهة للتنمية والبناء وفتح آفاق الاستثمار وخلق فرص عمل، ومعالجة الخلل والقصور، ومن يزورها سيكتشف أن المشروعات الضخمة في كافة المجالات ما بين مياه وكهرباء وطرق وشركات طيران جديدة وبناء مدن ذكية ورفع مستوى جودة الحياة، في كل مدينة وقرية سعودية حركة غير طبيعية في مجالات تنموية مختلفة.
وكانت العلاقات المتوترة مع جارتها ايران تقلق المجتمع السعودي وخاصة تلك الجماعات والميليشيات التي تلقى الدعم والمساندة من ايران مثل الحوثي، وخلال السنوات الماضية حاولت الدبلوماسية السعودية أن تقدم اكثر من ورقة رابحة لهذه الأطراف، إلا أنها كانت تصر على ممارسة دور المزعج، ومع انشغال السعودية في برامجها التنموية، حرصت على القيام بواجبها تجاه جيرانها، ومن خلال مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية نفذت العديد من البرامج الإنمائية في اليمن بلغت اكثر من 20 مليار دولار.
وفي العراق ساهمت بأكثر من ملياري دولار من اجل استقرار العراق ومواجهة الجماعات الإرهابية التي تجد الدعم من ايران، وقدمت للبنان من اجل أن ينهض من نكسته التي يعيش فيها منذ مقتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وإصرار حزب الله الإعلان رسميا تحالفه مع ايران ومعاداة السعودية بشكل مباشر وواضح، واغرق البلاد في دوامة لم تنهض منها حتى اليوم.
في المقابل لم يهنأ الإيرانيون بالنوم قرير العين نتيجة سياساتها في المنطقة وتعاملها مع جيرانها وانشغالها في صراعات لم تجلب لها التنمية بقدر ما أساءت لنفسها ولشعبها، وعلى مدى أربعة عقود أذاق الغرب أصناف العقوبات ما بين اقتصادية وسياسية وتجميد أرصدة مالية وقطع علاقات وفرض شروط ضخمة، وخسرت في المقابل تعاطف جيرانها والوقوف معها، وانعكس هذا الأمر داخليا حينما نظمت العديد من الاحتجاجات واجتاحت عدة مدن إيرانية قتل خلالها أكثر من 100 قتيل.
المصالحة التي أشرفت عليها الصين وشهدت العديد من الجلسات بين الطرفين السعودي والإيراني، هي في الواقع فرصة جاءت على طبق من ذهب للإيرانيين، للانضمام الى برامج التنمية في المنطقة وتغير عباءتها التي تلبسها منذ عقود الفوضى وتأجيج الخلافات السياسية والمذهبية، ودعم الإرهاب والتدخل في شؤون البلدان الأخرى، عودة العلاقات الدبلوماسية مع السعودية هي فرصة لتغيير العقلية الإيرانية والتفكير بجدية في بناء علاقات واضحة وصادقة، وليس فقط مع السعودية بل يتطلب الأمر تصحيح علاقتها بالغرب وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا.
بالطبع خرجت العديد من الأصوات بعد إعلان المصالحة من جهات عديدة سواء غربية أو عربية، ومنهم من علق أن الحرس الثوري الإيراني وبيت المرشد وجبهة الصمود في إيران لم يصدر منها أي تعليق، ما يجعل اتفاق المصالحة ضعيفا وقد يسقط سريعا، ومنهم من قال إن إيران تريد من هذه المصالحة، فك عزلتها وتجميل صورتها، وحتى تثبت حسن النوايا عليها أن تكبح أذرعتها المنتشرة في دول الجوار سواء للحرس الثوري وفيلق القدس. الأيام المقبلة حبلى بالأحداث والتحليلات لهذه المصالحة، إما نرى وجها جديدا لإيران نحو بناء الإنسان والمكان، أو نلمس مكرا جديدا اعتدنا علية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال