الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في مقال الأسبوع الماضي، تكلمت عن أهمية قطاع الرعاية الصحية، لاسيما في انه يخدم جميع أفراد المجتمع، والحاجة له ليست مقتصرة على فئة معينة. لذلك، يعتبر ذا اهمية بالغة، وفي نفس الوقت يعتبر من القطاعات المعقدة نظرا لتعدد أصحاب المصلحة والجهات ذات العلاقة في هذا القطاع. ومن هنا يبرز لنا التساؤل الوارد في عنوان المقال هل قطاع الصحة الحلقة الأضعف في مكافحة الفساد؟ ولنفترض ان الاجابة نعم ، او يغلب عليها الايجاب، فيبقى السؤال لماذا القطاع الصحي عرضة للفساد بشكل كبير؟
في الحقيقة، هناك خصائص مشتركة بين جميع النظم الصحية – سواء كانت ممولة من القطاع العام أو الخاص، سواء كانت في البلدان الغنية والفقيرة – تجعل هذا القطاع عرضة للفساد أكثر من غيره. هذه الخصائص عبارة عن اربع خصائص رئيسية.
من أهم هذه الخصائص المشتركة التي تجعل القطاع الصحي عرضة للفساد أكثر من غيره في كل مكان، هي اولى هذه الخصائص هو عدم توازن طبيعة المعلومات في النظم الصحية. بمعنى، يمتلك الممارسون الصحيون معلومات عن المرض أكثر من المرضى وبالتالي هم من يعلم كيف يمكن علاج الحالات التي ترد اليهم والتكلفة الحقيقية للعلاج ، كذلك شركات الأدوية والأجهزة الطبية تعرف المزيد عن منتجاتها أكثر من المسؤولين الحكوميين المسؤولين عن إصدار قرارات الإنفاق. و ولذلك، كانت من ضمن الحلول التي طبقتها بعض الدول، إتاحة المعلومات من الخسائر الناجمة عن الفساد. في الأرجنتين على سبيل المثال، كانت تعاني المستشفيات من التباين الفاحش في أسعار الخدمات الصحية والعلاج، لذلك، تم إعداد دراسة لإيجاد حلول لهذا التباين، فتم تطبيق حل وهو إجبار المستشفيات على الإفصاح عن الأسعار المدفوعة للإمدادات الطبية في مقابل الخدمات الطبية المقدمة. وتطبيق عقوبات صارمة في حال التلاعب باعلانات الافصاح بالقوائم المالية ذات العلاقة بأسعار الأدوية. ساهم هذا الأمر في انخفاض معدل التباين بين المستشفيات في أسعار الخدمات الصحية بنسبة 50 في المائة.
ولكن موضوع الافصاح ليس بهذه السهولة، ربما تنجح هذه الاستراتيجية لمعالجة حالة وحيدة في مسائل الإفصاح بالقطاع الصحي، ولكن يصعب تطبيقها في حالات أخرى بنفس الطريقة التي طبقتها الأرجنتين لعلاج مشكلة تباين أسعار المستشفيات. لذلك من ضمن الخصائص التي تجعل القطاع الصحي عرضة للفساد بشكل أكبر من غيره من القطاعات هي خاصيتان ذات علاقة بالخاصية الاولى وهي تعقيد النظم الصحية و تعدد أصحاب المصلحة، وعدم وضوح طبيعة العلاقة بين أصحاب المصلحة والموردين وأصحاب الشركات.
وعند الاشارة الى خاصية تعقيد النظم الصحية ، ولا سيما في ظل وجود عدد كبير من الأطراف المعنية ، او كما يطلق عليهم أصحاب المصلحة. تنوع أصحاب المصلحة يؤدي إلى تفاقم الصعوبات وظهور تحديات كبيرة في توليد المعلومات وتحليلها ، وفي تعزيز الشفافية ، واكتشاف ومنع الفساد. وهذا يكون غالبًا بسبب ان العلاقات بين موردي الخدمات الطبية ومقدمي الرعاية الصحية وواضعي السياسات مبهمة ويمكن أن تؤدي إلى تشويه السياسات التي تضر بالصحة العامة.
وبالتالي، من اهم الخصائص التي تقود الى وقوع الفساد في القطاع الصحي، ويجعل ملاحقة الفاسدين في هذا القطاع صعب جدا هو تعقيد النظم الصحية ، ولا سيما بوجود العدد الكبير من الأطراف المعنية ، فهناك الممارس الصحي، التنفيذي، والإداري، والمرضى وذويهم، وشركات التأمين، وشركات الادوية، وسياسات الدولة العامة والقطاعات الاخرى ذات العلاقة مثل وزارة التجارة والاستثمار .. الخ. بمعنى أن القطاع الصحي هو قطاع خدمي بحت، ولكن يمكن ان يكون أرضاً خصبة للتجارة والاستثمار. وبالتالي أصحاب المصلحة كُثر. هذا التشعب والتنوع في أصحاب المصلحة يؤدي إلى تفاقم صعوبات توليد المعلومات وتحليلها ، وبالتالي، حتى لو تم وضع نظام للإفصاح، فهذا النظام يصعب ان يطبق بنفس الالية المطبقة في القطاعات الاخرى. بمعنى، تعزيز الشفافية ، واكتشاف الفساد لا يمكن أن يتم من دون وجود نظام إفصاح وشفافية متكامل. وهذه حلقة مفقودة في كثير من النظم الصحية. و غالبًا ما تكون العلاقات بين موردي الخدمات الطبية ومقدمي الرعاية الصحية وواضعي السياسات مبهمة. عدم الوضوح في العلاقة بين العاملين في قطاع التوريد وسلاسل الامدادات، وبين الممارسين الصحيين والتنفيذين والشركات المٌتعاقد معها ويمكن أن تؤدي إلى تشويه السياسات الصحية، والتي ستنعكس على أسلوب الإدارة والقوانين والميزانيات المرصودة لدعم القطاع الصحي. عدم الوضوح هذا بكل تأكيد سيؤدي الى ارتفاع معدل وقوع الفساد وهذي يعني الإضرار بالصحة العامة.
آخر هذه الخصائص التي تدعو الى انتشار الفساد في القطاع الصحي، عدم اليقين في عدد الأشخاص الذين يحتاجون للرعاية الصحية وعدم معرفة من سيصاب بالمرض ، ومتى سيحدث المرض ، وأنواع الأمراض التي يصاب بها الناس ، ومدى فعالية العلاج المتاح. كل هذه أمور تعتبر تحدٍ آخر لواضعي السياسات الصحية ، لأنه يجعل من الصعب إدارة الموارد ، بما في ذلك اختيار ورصد وقياس الميزانيات والاحتياجات المساعدة في تقديم خدمات الرعاية الصحية وتصميم خطط التأمين الصحي. ولذلك، في حالات الطوارئ، أو في الحالات الانسانية، ويزداد خطر الفساد لأنه سيكون هناك حاجة ماسة للرعاية الطبية وغالبًا في حالات الطوارئ ما يتم تجاوز آليات الرقابة وباعتبار أنها حالة استثنائية. لذلك، من المهم ايضا، عند ادارة المخاطر، تقييم مثل هذه المخاطر التي قد تحدث، لمساعدة الجهات التشريعية في القطاع الصحي لوضع أفضل الوسائل والسبل لمواجهة احتمالات استغلال الحالات الطارئة لارتكاب جرائم الفساد المالي و الاداري.
بالنظر لهذه الخصائص، يمكننا أن نحلل الوضع لدينا في المملكة العربية السعودية، خصوصا ان قطاع الخدمات الصحية قطاع ضخم ومتشعب. والآن نحن في ظل خصخصة هذا القطاع، وكما هو معروف ان الخصخصة سلاح ذو حدين. يمكن ان تكون ذات نفع ايجابي اذا طبقت بشكل صحيح. وعندما نتكلم هنا عن ضخامة القطاع الصحي في وضعه الراهن، فما بالك عندما تتم عملية الخصخصة بشكل كامل. وبالتالي لابد من وضع أيدينا على خصائص الفساد الرئيسية في هذا القطاع كما حاولت سرده بشكل مبسط في هذا المقال. هذه الخصائص الرئيسية ولكنها ليست محصورة فيها، هناك خصائص اخرى مشتركة وهناك خصائص اخرى تختلف باختلاف الدول وثقافتها وانظمتها وسياساتها، وهذا ما سنتكلم عنه المقال القادم بإذن الله.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال