الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
وصف يانيس فاروفاكيس وزير مالية اليونان السابق ومؤلف كتاب (الاقتصاد كما اشرحه لابنتي) النظام البنكي بالسحر الأسود وعلل ذلك بأن البنوك تخلق النقود من العدم، وهو تعبير صحيح مجازاً، وبلغة الاقتصاد تسمى هذه العملية توليد النقود عن طريق مضاعف الائتمان.
فالبنوك فعلاً تُقرض أكثر مما تأخذ، وحجم الودائع لديها أكبر بكثير من حجم النقود الموجودة فعلاً لدى البنوك، فعندما تودع مبلغ لدى البنك فإنك تجده رقم في حسابك ثم يقوم البنك بإقراض جزء منه ويسجله في حساب المقترض دون أن يخفض البنك مبلغ الوديعة الموجود في حسابك، وبهذه الطريقة تولد النقود المودعة (الودائع الأولية) نقوداً غير موجودة (الودائع المشتقة) وذلك بفعل طبيعة العمليات الائتمانية التي يقوم بها البنك، لذا إذا جاء كل أصحاب الودائع في وقت واحد وطلبوا سحب ودائعهم فلا يوجد بنك يستطيع أن يلبي هذه الطلبات لأنه ببساطة ليس عنده هذه الأموال المسجلة على شكل ودائع.
إذاً فالضامن للبنوك أن تستمر في عملها هو أنها تراهن أن الجميع لن يأتوا يطلبوا سحب ودائعهم في وقت واحد، وأن عمليات سحب الودائع لن تكون أعلى من السيولة النقدية الموجودة لدى البنك لأن الناس تثق في البنك.
من هذا الفهم لطبيعة العمليات البنكية ندرك أهمية الثقة في النظام البنكي وأنه الركن الأساسي في أصل فكرة النظام البنكي وبدونه ينهار النظام البنكي، ولهذه الأهمية الكبيرة لكسب البنوك ثقة المودعين ولأهمية النظام البنكي الذي يعتبر القلب النابض للاقتصاد المعاصر اليوم، تقوم البنوك المركزية بإنقاذ البنوك المهددة بالانهيار ليس حباً في مُلاك أسهم هذه البنوك إنما لتعزيز الثقة في النظام البنكي، ولأن انهيار بنك واحد قد يتسبب بانتشار العدوى لبنوك أخرى فيصيب المودعين الخوف والذعر من ضياع ودائعهم ويتكدسون على أبواب البنوك لسحب ودائعهم، ومن المعلوم أن حدوث ذلك يعتبر أزمة أو كارثة اقتصادية تؤدي إلى انهيار البنوك الذي حتماً سيتبعه انهيار للاقتصاد.
وبعد هذه المقدمة نستطيع أن نفهم ضرورة ما قام به الفيدرالي الأمريكي من ضخ سيولة في البنوك الامريكية على اعقاب انهيار بنك السيلكون فالي وبنك سيجنتشر واحتمال انهيار بنوك أخرى.
وهذا الضخ ليس الهدف منه تشجيع البنوك على اقراض الأفراد والشركات وبالتالي تزيد السيولة داخل الاقتصاد!! فهذا يناقض عمل سياسة الفيدرالي النقدية الانكماشية التي انتهجها من أكثر من 8 أشهر وقام برفع الفائدة بشكل سريع ومتتالي طوال الفترة الماضية هادفاً من هذه السياسة النقدية الانكماشية تجفيف السيولة من الاقتصاد وبالتالي تنخفض سرعة دوران عجلة الاقتصاد وبالتالي ينخفض معدل تضخم الأسعار، فالمقصود من توفير السيولة الأخير هو تعزيز الثقة بالنظام البنكي فقط لذا هذا الضخ لم يكن على شكل شراء البنك المركزي أوراق مالية أو أصول طويلة الأجل إنما كان على شكل قروض قصيرة الأجل لا تستطيع معها البنوك استخدامها في عمليات تمويل، فخوف البنوك من ضغوطات المودعين وطلباتهم سحب ودائعهم إضافة إلى قصر مدة هذه القروض يحتم على البنك الاحتفاظ بهذه السيولة عنده وبالتالي لن تجد هذه الأموال نافذة للدخول إلى الاقتصاد ولن تسبب ارتفاع للتضخم.
وقد صرح بهذا جيرم بأول رئيس الفيدرالي الأمريكي في المؤتمر الأخير يوم 15 مارس حيث قال:” إن توفير السيولة مؤخراً الذي أدى إلى زيادة حجم أصول البنك الفيدرالي هو حقاً إقراض مؤقت للبنوك لتلبية طلبات السيولة التي أوجدتها التوترات الأخيرة ولا يقصد منه تغير موقف السياسة النقدية بشكل مباشر فنحن نعتقد أن تأثيره المقصود هو في تعزيز الثقة في النظام المصرفي”
ونحن نتساءل هل احتياج البنوك الأمريكية للسيولة وخوفها من ضغوطات المودعين وقصر مدة إقراض البنك المركزي يضمن 100% بأن لا تجد هذه السيولة نافذة لدخول الاقتصاد وبالتالي ينتج عن ذلك ارتفاع في معدل التضخم !
لست متأكد من مدى دقة ذلك لكن اعتقد أنه على افتراض استخدام البنوك الكبيرة جزء من هذه السيولة في عمليات تمويل فإن البنك الفيدرالي يراقب السيولة في الاقتصاد ولديه أدوات متعددة لسحب هذه السيولة وفي نفس الوقت يراقب أوضاع البنوك ومدى تضررها من ارتفاع الفوائد ولمعالجة ذلك قد يعجل بتثبيت أسعار الفائدة الى ما قبل 2024 وأما اذا تحسنت أوضاع البنوك فالمتوقع أن يستمر الفيدرالي رحلته برفع أسعار الفائدة.
فالشغل الشاغل الآن لصانعي القرارات الاقتصادية في أمريكا هو محاربة التضخم وإنقاذ البنوك المحتمل إعلان افلاسها ولن تضحي بأحدهما مقابل الآخر وهم يعتقدون أنه بالإمكان أن يجمعوا بين الهدفين الذي يراه البعض متناقضين ولا يمكن الجمع بينهما.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال