الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في الأسبوع الماضي توقعت منظمة التجارة العالمية تراجع نمو التجارة العالمية إلى 1.7% في عام 2023 مقابل نموها بنحو 2.7% في عام 2022. وقبل أيام صدر في لندن تقرير مركز أبحاث السياسات الاقتصادية محذراً دول العالم عامةً ومجموعة العشرين خاصةً بأن التجارة العالمية تواجه أسوأ مراحلها بسبب السياسات الحمائية التي تنتهجها الدول الرأسمالية المؤسسة للعولمة التجارية. وأكد التقرير أن هذه الدول احتلت المرتبة الأولى استخداماً لهذه السياسات من خلال تطبيق أكثر من 600 نوع من الإجراءات التمييزية ضد الشركات الأجنبية خلال العقد الماضي.
هذه السياسات المشوهة للتجارة أخذت منحنى خطيراً بعد أن فرضت أمريكا قبل ثلاثة أعوام رسوماً جمركية حمائية على وارداتها من الحديد الصلب الصيني، لتصل إلى ما مجموعه 522%، وتشمل 266% رسوم مكافحة الإغراق و 256% رسوم تعويض الدعم. وهذا يتعارض مع أبسط قواعد منظمة التجارة العالمية، لأن فرض هذه الرسوم بصورة مزدوجة في وقت واحد على المنتجات المستوردة يتعارض حكماً مع التزامات أمريكا تجاه الدول الأعضاء بالمنظمة.
وفي مؤتمر “دافوس” مطلع العام الجاري اعترفت معظم المنظمات الدولية بأن تراجع الاقتصاد العالمي لا يعود فقط إلى آثار الحرب في أوكرانيا، وتداعيات انتشار فيروس كورونا، بل إلى انتهاج بعض الدول لتيارات العولمة الجارفة من خلال تطبيق مبادئ السياسات المشوهة للتجارة والتي أدت إلى حالة عدم اليقين في الأسواق المالية، مثقلةً بحالات الانجراف وراء القيود التجارية لمعالجة فجوات الصدمات. وفي هذا الإطار، توقعت معظم المنظمات الدولية تراجع نمو الاقتصاد العالمي إلى أدنى مستوى له منذ ثلاثة عقود.
ولعل أقل الدول تأثراً بهذا التراجع كان من نصيب الدول التي أبدعت في مواجهة تيارات العولمة الجارفة رغماً عن افتقارها لخيرات الأرض وثروات الطاقة. فاليابان، التي تعتمد في تصنيع منتجاتها على 86% من المواد الأولية المستوردة، كانت أول من أبدع في استغلال مزاياها التنافسية من خلال تطبيق نظرية التجارة المتكاملة. نتيجة لهذه النظرية استغلت اليابان مبدأ تفوقها في التقنية، لتصبح الفاصل النهائي في قدرة المنتجات اليابانية على النفاذ في الأسواق العالمية بشكل أكبر لدى تساوي أسعار المنتجات في هذه الأسواق. لذا كان تركيز اليابان على تطوير التقنية بطرق ديناميكية أدت إلى تفوق منتجاتها على مثيلاتها الأوروبية والأمريكية، ووضعت اليابان في المركز الرابع كأكبر اقتصاد في العالم.
أما الهند فكانت أولوياتها تصب في توفير المزايا التنافسية لمنتجاتها وتحقيق التنمية المستدامة والكفاءة الإنتاجية لصناعاتها من خلال التحرير التدريجي لتجارتها العالمية وتطبيق مبدأ المنافسة العادلة في أسواقها. وعلى عكس ما كانت تنتهجه الدول الأخرى، لجأت الهند إلى تخفيض الرسوم الجمركية على وارداتها من السلع الأساسية وفتح أسواقها للاستثمار الأجنبي وإلغاء تحكّم الدولة في الأسعار. وتحقيقاً لهذه القواعد وضعت الهند خطة تنموية صارمة تهدف إلى تحقيق نمو اقتصادي مستدام لا تقل نسبته عن 5% سنوياً. وأدى نجاح الخطة الهندية في العام الماضي إلى تحقيق نمواً اقتصادياً بالأسعار الجارية يساوي 8%، وهذا دليل واضح على نجاح الهند في مواجهة عشوائيات العولمة الجارفة.
وكذلك أبدعت كوريا الجنوبية في استغلال مزاياها التنافسية لتحقيق أهدافها التنموية التي وضعتها للوقوف في وجه المنافسة الدولية العاتية. وكان الهدف الأول يتمحور حول تشجيع الصناعات الثقيلة التي تعتمد على الطاقة والمواد الأولية المستوردة فأصبحت كوريا تمتلك أفضل الأحواض الجافة لتصنيع واصلاح السفن. أما الهدف الثاني فكان يختص بوضع كوريا الجنوبية في مصاف الدول المتقدمة في خدمات الاتصالات الأساسية وتقنية المعلومات، لتتميز اليوم بأفضل شبكة للاتصالات الضوئية في العالم. وجاء الهدف الثالث لكوريا الجنوبية موجهاً لرفع الكفاءة الإنتاجية لصناعتها الوطنية من خلال إعادة هيكلة التعليم وتوجيه مخرجات التدريب، ونجحت كوريا الجنوبية في خططها لتصبح خامس أكبر مُصّدر لمنتجاتها الصناعية في الأسواق العالمية.
أما الصين الشيوعية الفقيرة، التي اكتسبت في عام 2001م عضويتها في النظام التجاري العالمي، الذي كان يلقّب بنادي الأغنياء، فلقد حققت على حساب الدول الرأسمالية الغنية نجاحات اقتصادية باهرة ومنقطعة النظير، حازت من خلالها على احترام كافة الشعوب الغنية والفقيرة. ولم يكن لدى الدول الرأسمالية أدنى شك من أن انضمام الصين لمعقل العولمة سوف يفتح أمام صادراتهم أسواق ربع سكان المعمورة، التي طالما أحاطت حدودها بسور عظيم لا يخترق. إلا أن الصين خيبت أمال هذه الدول وقلبت معادلاتهم رأساً على عقب، حيث أحكمت الصين قبضتها على مبادئ العولمة من خلال المشاركة الفعالة في محفلها لتحييد عشوائياتها، وأطلقت العنان لمزاياها التنافسية من خلال خصخصة منشآتها الحكومية لرفع كفاءة أدائها ومواجهة منافسيها.
وفور اكتسابها عضوية منظمة التجارة العالمية، وضعت الصين خطة استراتيجية محكمة وطموحة لمسيرة الإصلاح الاقتصادي، فأبدعت الحكومة على كافة مستوياتها في تنفيذ خطواتها وتقييم نتائجها ومتابعة المسؤولين ومحاسبة المقصرين في تحقيق أهدافها. خلال العام الماضي، حاز الوفد الصيني على أفضل نسبة مشاركة بين 164 دولة في اجتماعات المنظمة، حيث شارك في 6450 اجتماعاً تفاوضياً، وناقش 65000 ورقة رسمية، وقدم 312 اشعاراً إلى جانب طرح 27 مبادرة تجارية جديدة. وأصبح الوفد الصيني محط أنظار كافة الدول والتكتلات التجارية.
وخلال العقد الماضي تفوقت الصين على كافة الدول الأعضاء بالمنظمة في توجيه دفة النظام التجاري العالمي لصالحها. ونجحت الصين في تخفيض نسبة الفقر بين مجتمعاتها من 73% إلى 32% وقفزت قيمة صادراتها العالمية من المرتبة الرابعة عشر إلى المركز الأول بزيادة سنوية فاقت 20% وعائد مادي صافي وصل إلى 360 مليار دولار أمريكي، نصفه ناتج عن صادراتها إلى أمريكا عدوة الصين اللدود. وفي السنوات الثلاثة الماضية حققت الاستثمارات المباشرة المتدفقة لأسواق الصين أعلى النسب في العالم، وساهمت في إيجاد مئة مليون وظيفة عمل جديدة لمواطنيها ومئة مليون وظيفة أخرى جاهزة لاستقطاب خريجي الجامعات الصينية في العقد القادم. وساهمت هذه النتائج الباهرة في زيادة نسبة النمو السنوي الحقيقي للاقتصاد الصيني إلى 9% على مدى خمس سنوات متتالية، إضافة إلى تفوق المارد الشيوعي في حسن استغلال مزاياه التنافسية وزيادة القيمة المضافة المحلية على منتجاته. بين ليلة وضحاها أصبحت أسواق الصين مركزاً واعداً لصناعة الطائرات والسيارات والأجهزة والمعدات والقاطرات والمنسوجات والملابس.
لم تقف الصين عند هذا الحد من الطموح منقطع النظير، بل قامت باستثمار ثلاثة أرباع مدخراتها المالية في شراء صكوك الحكومة الأمريكية بقيمة وصلت خلال هذا العام إلى 1,5 تريليون دولار، لتصبح الصين أكبر متحكم في القرارات الاقتصادية والموارد المالية لدولة تكن لها العداء المتأصل. وعندما همست أمريكا بعدم مشاركتها في الألعاب الأولمبية التي استضافتها الصين في عام 2008، هددتها الصين بتسييل كافة استثماراتها في الصكوك المالية الأمريكية، مما حذا بالعدو اللدود إلى العدول عن همساته.
واليوم، طبقاً لتقارير المنظمات الدولية، فمن المتوقع أن تتربع الصين في عام 2030 عرش أكبر اقتصاد عالمي بناتج محلي إجمالي يفوق 83 تريليون دولار، لتتفوق بذلك على أمريكا التي ستحتل المرتبة الثانية بناتج محلي إجمالي لا يزيد عن 34 تريليون دولار. أما اليابان فستكون في المرتبة الرابعة بعد الهند التي ستحتل المرتبة الثالثة بناتج محلي إجمالي يفوق 26 تريليون دولار.
نجاح الدول في النظام التجاري العالمي وتحقيق أهدافها في اكتساح أسواق الدول الغنية لا يأتي بمحض صدفة أو من خلال انتظار طفرة واعدة، إنما يتأتى نتيجة حتمية لمهارة الدول في تحديد أهدافها التنموية وتسخير مزاياها التنافسية لتحييد عشوائيات العولمة الجارفة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال