الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أثارت الأزمة المصرفية الأخيرة في الولايات المتحدة بعد انهيار – سيلفرغيت، وبنك سيليكون فالي، وبنك سيجنتشر في بداية شهر مارس 2023 حالة من عدم اليقين والذعر المصرفي من احتمال خسارة العملاء لودائعهم، والمخاوف من عدم التطابق ما بين آجال الأصول والخصوم ومن وجود ثغرات في النظام التنظيمي والإشرافي بصورة عامة وبالخصوص في المنتجات المالية المعقدة. و زادت مخاطر الإستقرار المالي العالمي على الرغم من بقاء القروض المتعثرة منخفضة نسبياً، حيث أدى النفور المتزايد من المخاطرة إلى زيادة التقلبات في بعض الأسواق المالية وإلى انتقال ضغوط السيولة إلى أجزاء أخرى من النظام المصرفي الدولي، إذ بلغ ذروته في عملية استحواذ يو بي أس UBS على كريديت سويس Credit Suisse التي مهدت له الجهات التنظيمية، بعد فترة طويلة من المخاوف كان آخرها تكبده خسارة سنوية بلغت 7.29 مليار فرنك سويسري في عام 2022، ومخاطر في السيولة بعد أن قام العملاء بسحب 110 مليارات فرنك سويسري من الودائع في الربع الرابع للعام 2022. وفي مواجهة هذه الإخفاقات المصرفية الرفيعة المستوى، ظل النشاط المصرفي العالمي الأوسع مرناً، حيث تم دعم ذلك من خلال الإجراءات الفورية للسلطات المالية والإصلاحات السابقة في أعقاب الأزمة المالية العالمية في عام 2008، والتي تلزم احتفاظ البنوك الكبيرة بمستويات عالية من رأس المال والسيولة. وفي هذه الأزمة الأخيرة، فقد تحرك المنظمون بسرعة لمعالجة البنوك المنهارة، وبعد عمليات ضخ السيولة من قبل البنوك المركزية استقرت الأوضاع المالية. غير أنه لا تزال الثقة في بعض البنوك هشة، لا سيما تلك التي لديها نماذج أعمال تجعلها عرضة لهروب الودائع، وإذا ما استجدت ضغوط أخرى فإنها ستؤثر على البنوك في بعض أنحاء العالم، وبالتالي سوف تسهم في تشديد الأوضاع المالية.
لقد جاء انهيار “بنك سيليكون فالي” على خلفية سياسة تشديد السياسة النقدية وزيادة عدم اليقين بشأن آفاق الانتعاش العالمي، وذلك بعد أن قام الاحتياطي الفيدرالي في مواجهة تسارع التضخم العالمي برفع أسعار الفائدة من 0.125٪ في فبراير 2022 إلى 4.625٪ في فبراير 2023 والتحول من سياسة التيسير النقدي إلى التشديد النقدي، والتي على أثرها بدأت عائدات السندات تعكس معنويات السوق المتغيرة في الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك ايضاً، بدأت تتدهور قيمة الأصول طويلة الأجل، ومنها السندات الحكومية والرهون العقارية، مما كشف مخاوف الملاءة المالية وضغوط السيولة، خاصة بالنسبة للبنوك متوسطة الحجم. ولذا يعزى فشل بنك سيليكون فالي بشكل عام إلى تفاقم أزمة السيولة بسبب عمليات السحب الكبيرة والسريعة، وهوامش صافي الفائدة المرتبطة بالتراجع الأوسع لقطاع التكنولوجيا. وفي ضوء هذه الأحداث، أصبح الإستقرار المالي هو الهدف الأساسي للبنوك المركزية في جميع أنحاء العالم، وهذا ما استدعى الباحثين وصانعي السياسات المالية إلى القيام بمراجعة واستخلاص الدروس من حالات الاضطراب المالي المتنوعة لزيادة تعزيز الاستقرار المالي في اقتصاداتها.
وإلى جانب تدهور قيم الأصول، فقد أدى أيضاً الجمع بين تشديد السياسة النقدية والتضخم المرتفع وتباطؤ النمو الاقتصادي إلى الضغط بشكل متسارع على أوضاع التدفق النقدي لبعض الأسر والشركات في كثير من دول العالم، حيث رفع مخاطر الائتمان وشكل تحدياً على قدرة البنوك من تحقيق الأرباح والحفاظ على المعايير التي تتطلبها الجهات التنظيمية. غير أن النظام المصرفي السعودي لا يزال قويًا وفي وضع جيد لمواصلة دعم الإقتصاد المحلي، فالبنوك السعودية منظمة بشكل جيد وتتمتع برسملة قوية وأرباح جيدة وذات سيولة عالية، وهذا يجعلها في وضع جيد لمواصلة إقراض الأسر والشركات. وتعد سلامة القطاع المصرفي جانبًا مهمًا من جوانب اقتصاد الدولة لأنها تؤثر على الاستقرار المالي والاستثمار والنمو الإقتصادي. ولتقييم سلامة القطاع المصرفي السعودي، سوف يتم استخدام أهم المؤشرات التي تعكس درجة السلامة المالية للبنوك ومستوى الإستقرار العام للقطاع المالي. وتعتبر نسبة كفاية رأس المال (CAR) من المؤشرات الحاسمة المستخدمة لتقييم سلامة القطاع المصرفي، وهي نسبة رأس المال التنظيمي إلى الأصول المرجحة للمخاطر ويهدف هذا المؤشر إلى ضمان أن البنوك لديها رأس مال كافٍ لإمتصاص الخسائر والاستمرار في العمل حتى في ظروف السوق المليئة بالضغوط وتقليل احتمالية الإفلاس والمحافظة على الملاءة المالية. وعلى مستوى القطاع المصرفي في المملكة العربية السعودية فقد بلغ معدل كفاية رأس المال 19.9 % في عام 2022، والذي تجاوز الحد الأدنى التنظيمي لكفاية رأس المال عند 12.5٪، مما يشير إلى وجود احتياطي قوي ضد الخسائر المحتملة، (الرسم البياني 1).
ويأتي في الدرجة الثانية من الأهمية للسلامة المصرفية مؤشر نسبة القروض المتعثرة إلى الإجمالي الكلي للقروض NPL))، والذي يقيس جودة محفظة قروض البنك، حيث بلغت هذه النسبة للقطاع المصرفي السعودي 1.8% في عام 2022، بعد أن انخفضت من معدل 2.2% في عام 2020 خلال فترة وباء كورونا، وهذه النسبة المنخفضة تشير إلى أن البنوك السعودية تدير بشكل فعال مخاطر الائتمان، بل ومن المرجح قدرتها على الصمود في وجه أي انكماش اقتصادي رغم الارتفاع الكبير في أسعار الفائدة و في ظل ما نشهده من تقلبات في أسعار النفط والتطورات الجيوسياسية التي لا تزال تفرزها آثار الحرب الروسية الأوكرانية. كما أن نسبة صافي القروض المتعثرة لمخصصات القروض إلى رأس المال وهي أيضاً مقياس مالي يستخدم لقياس سلامة محفظة قروض البنك فقد بلغت 2.7% في عام 2022، حيث تعكس هذه العلاقة نسبة رأس مال البنك المرتبط بقروض متعثرة لم يتم حذفها بالكامل بعد، والذي يؤكد أيضاً بأن القطاع المصرفي يدير محفظة قروضه بشكل أكثر فعالية وأقل عرضة للخسائر المحتملة، (الرسم البياني 2).
كما يعد تحليل مخاطر السيولة مكونًا أساسيًا لإدارة المخاطر للبنوك لأنها تلعب دورًا حاسمًا في الحد من احتمالية عدم قدرة المؤسسة المالية على الوفاء بالتزاماتها بسبب نقص السيولة أو عدم وجود الأصول التي يسهل تسييلها. وقد تأتي مخاطر السيولة نتيجة لعوامل مختلفة، بما في ذلك الإرتفاع المفاجئ في الطلب على النقد، أو أمراً غير متوقع يؤدي إلى فقدان الثقة في المؤسسة المالية، أو أزمة مالية وطنية أو عالمية. ويمكن أن تتسبب واحدة من هذه الأحداث في مشاكل سيولة حادة إذا ما تم استنفاذ قدرة البنك على تلبية طلبات سحب العملاء لعوائدهم واستثماراتهم، مما يتركه دون أي خيارات يمكن أن تؤدي بالنهاية إلى انهيار البنك كما حدث في بنك سيليكون فالي وكريديت سويس على سبيل المثال. ولذا فإن معايير السيولة مهمة جداً لسلامة القطاع المصرفي لأنها تساعد على ضمان عدم فقدان السيولة للبنوك وتجاوز الحدود النظامية في أوقات الأزمات المالية. كما أنه من الضروري مراقبة وإدارة مخاطر السيولة للتأكد من أن القطاع المصرفي مجهز للتعامل مع الطلبات النقدية المتوقعة وغير المتوقعة. ويعتبر قياس مخاطر السيولة عملية معقدة، إذ يتضمن مجموعة من العوامل التي يمكن أن تؤثر على توافر النقد والأصول السائلة.
ولتقييم هذه المخاطر على مستوى القطاع المصرفي السعودي فقد بلغت نسبة الأصول السائلة إلى المطلوبات قصيرة الأجل 39.7% بنهاية 2022 بعد أن انخفضت قليلاً من 41.3% في عام 2021، وهذه النسبة التي تهدف إلى قياس مدى عدم تطابق السيولة بين الأصول والخصوم فقد جاءت بشكل مستقر خلال الأعوام الماضية، حيث توفر مستواً ملائماً من السيولة بما يمكن البنوك من خلالها الوفاء للعملاء بسحب الأموال على المدى القصير دون مواجهة مشاكل في السيولة. كما أنه خلال الفترة 2010- 2022، نجد أن هناك علاقة إيجابية بين الأصول السائلة ونسبة القروض المتعثرة، حيث تزداد الأصول السائلة مع زيادة نسبة القروض المتعثرة إلى إجمالي القروض وتتراجع مع انخفاضها، وبما يجنب القطاع المصرفي السعودي أية مشاكل في السيولة. وحسب تقرير البنك السعودي المركزي للاستقرار المالي 2022، فإن نسبة مخزون السيولة عالية الجودة إلى صافي التدفقات النقدية الخارجية المتوقعة خلال فترة من ضغط السيولة مدتها 30 يوماً (تغطية السيولة (LCR فقد بلغت 174% في عام 2021، والتي هي أعلى من المتطلب التنظيمي البالغة 100%. و من ناحية أخرى، فإن نسبة صافي التمويل المستقر وعلى مدى أفق عام واحد (NSFR) ، فقد تراجعت من 127.2% في عام 2020 إلى 121.7% في عام 2021، إلا أنها أيضاً أعلى من المتطلب التنظيمي البالغ 100٪، و هذا يعني أن التمويل المستقر المتاح للبنك أعلى بنسبة 21.7%٪ من التمويل المستقر المطلوب، بما يمكنه بسهولة من تمويل أنشطته على المدى الطويل. وهذه المستويات المرتفعة تدلل على سلامة القطاع المصرفي السعودي وتؤكد على ضمان عدم فقدان السيولة للبنوك في أوقات الأزمات المالية، (الرسم البياني 3).
يعد القطاع المصرفي من أكثر الصناعات حيوية في أي اقتصاد، ويلعب دورًا أساسياً في تحقيق النمو الإقتصادي والتنمية من خلال توجيه الأموال من جهات الفائض سواءً أفراد أو شركات إلى تمويل وحدات العجز في الاقتصاد. ولذا من المهم جداً أن يكون القطاع المصرفي مربحًا وفعالًا من أجل أداء مهامه بفعالية. ولذلك فإن مراقبة وتحليل ربحية وكفاءة القطاع المصرفي تعتبر مهمة أساسية لتقييم استقرار ومرونة النظام المصرفي. ومن بين المؤشرات المهمة هامش الفائدة على الدخل الإجمالي حيث يعتبر مقياسًا مهمًا للربحية لأنه يوضح مقدار ما يكسبه البنك على أصوله التي تدر فوائد مقارنة بالفوائد التي يدفعها على التزاماته في جانب الخصوم. وفي عام 2022، بلغ هامش الفائدة إلى إجمالي الدخل في القطاع المصرفي السعودي 77.9٪، حيث تشير هذه النسبة إلى أن القطاع المصرفي يحقق مكاسب على أصوله بأكثر مما يدفعه على التزاماته. وأما فيما يخص المصروفات من غير الفوائد إلى إجمالي الدخل، والتي تقيس نسبة تكلفة إجراء الأعمال كنسبة مئوية من الدخل الإجمالي للبنوك، فقد بلغت 34٪، حيث تعد هذه النسبة المنخفضة مؤشرًا مهمًا آخر على كفاءة القطاع المصرفي السعودي، (الرسم البياني 4).
كما لا يمكن المبالغة في أهمية مؤشرات العائد على الأصول والعائد على حقوق الملكية بالنسبة لسلامة واستدامة القطاع المصرفي، وأولاً وقبل كل شيء هذه المقاييس هي مؤشرات رئيسية لربحية وكفاءة عمليات البنك، إذ أن البنوك التي تحقق عائدًا مرتفعاً على الأصول وكذلك على حقوق الملكية هي بنوك قادرة على جذب المزيد من العملاء والمستثمرين، مما يؤدي بدورهما إلى زيادة الإيرادات والأرباح. ولكن بالإضافة إلى ذلك، فإن الربحية المرتفعة تشير أيضًا إلى أن البنوك تتمتع بقدرة جيدة على امتصاص الخسائر، وهو أمرُ في غاية الأهمية في أوقات الأزمات المالية والإقتصادية. وعلى مستوى القطاع المصرفي السعودي، فقد بلغ العائد على حقوق المساهمين (ROE) 12.5٪ في عام 2022 بعد أن ارتفعت هذه النسبة من 10.8% للعام 2021، حيث جاءت بأعلى من المتوسط العالمي البالغ 8٪. كما أن العائد على الأصول (ROA) والذي يقيس صافي الدخل المكتسب كنسبة مئوية من إجمالي الأصول فقد استمر في الارتفاع خلال السنوات الماضية من 1.1% في عام 2018 حتى بلغت هذه النسبة 2.7% في عام 2022، وأعلى بفارق كبير من متوسط العائد على الأصول للبنوك في جميع أنحاء العالم التي تبلغ 0.6% وفقًا لبنك التسويات الدولية، (الرسم البياني 5).
وفي الختام، أنه في أعقاب الأزمة المصرفية الحالية التي اندلعت في الولايات المتحدة وأدت إلى انهيار مصرف سيليكون فالي بنك ومن ثم بنك كريديت سويس في سويسرا، أثارت المخاوف حول استقرار ومرونة القطاعات المصرفية في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، وسط هذه المخاوف، أظهر القطاع المصرفي السعودي مؤشرات إيجابية، مما أعطى ثقة عالية لدى المستثمرين والمودعين وأصحاب المصلحة. وبفضل نسب كفاية رأس المال السليمة، ونسبة القروض المتعثرة إلى إجمالي القروض المنخفضة، وإن أي زيادة في القروض المتعثرة إذا حدثت سوف تأتي من مستوى منخفض، ومعدلات السيولة الجيدة، ومعدلات الربحية المرتفعة وبالأخص العائد على حقوق الملكية والعائد على الأصول، فقد أثبت القطاع المصرفي السعودي أنه ملاذ موثوق به للمستثمرين والمودعين الباحثين عن الإستقرار والنمو. وإنه ايضاً من خلال الإشراف التنظيمي الحكيم من قبل البنك المركزي السعودي وبيئة الاقتصاد الكلي القوية، فإن القطاع المصرفي السعودي في وضع جيد لمواجهة أي عواصف في المستقبل القريب قد تأتي في طريقه، مما يوفر حجر الأساس للنمو الاقتصادي والتنمية في البلاد. ومع استمرار العالم في مواجهة تداعيات الأزمة المصرفية الأخيرة، يقدم القطاع المصرفي السعودي نموذجاً مميزاً على الإستقرار والمرونة، مما يدل على أهمية الإدارة المالية الحكيمة والرقابة التنظيمية في ضمان الاستدامة طويلة الأجل للخدمات المصرفية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال