الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
مع نهاية عام 2022، كانت المؤشِّرات الإيجابية لاقتصاد المملكة في تَصَاعُدٍ مُذهِلٍ، خاصةً بعد أن انتهتْ معظم القطاعات الاقتصادية من آثار أزمة كوفيد-19، وهكذا فقد انطَلَقَ القطاع المالي بثباتٍ أكبر وتَطَلُّعَاتٍ مُشرِقَةٍ.
وعلى هذا فقد صَدَرَ التقرير السنوي لبرنامج تطوير القطاع المالي أواخر عام 2022، حاملاً معه مجموعة من التطلعات لعام 2023.
تَستَنِدُ تَطَلُّعَاتِ القطاع المالي 2023 بشكلٍ أساسيٍّ على مجموعةٍ من المحاور، أهمُّها:
أولاً: تطوير “التقنية المالية” “FinTech”؛ وهي مجموعة من المشاريع الناشئة التي تعمل على تقديم خدمات مالية عبر الأساليب التكنولوجية، مثل الدفع الإلكتروني، والبنوك الافتراضية، وحتى خدمات الأسواق المالية بشكلٍ تقنيٍّ كاملٍ.
وقد بَشَّرَ التقرير بإطلاق الخطة التنفيذية لاستراتيجية التقنية المالية حتى تكون المملكة موطناً ومركزاً عالمياً للتقنية المالية، وأن يُصبِحَ الابتكار في الخدمات المالية هو الأساس، إلى أن تَصِلَ نسبة التعاملات المالية غير النقدية إلى ما نِسبَتُهُ 70% من مجموع التعامُلَات مع حلول عام 2025 (التقرير، صـ16).
ثانياً: تطوير السوق المالية؛ حيث سيتمُّ ربط السوق المالية السعودية مع مركز الإيداع الدولي (يورو كلير) الذي يَسمَحُ للمستثمرين الدوليِّين تسوية تداولاتِهِم على الأوراق المالية الصادِرَة مَحَلِّياً عن طريق مركز إيداع الأوراق المالية الدولي. كما سَعَت السوق المالية إلى تشجيع إدراج الشركات الأجنبية مباشرةً (التقرير، صـ24).
ثالثاً: المنشآت الصغيرة والمتوسطة: حيث يَسعَى البنك المركزي السعودي إلى تسهيل سداد المشاريع الصغيرة ومُتَنَاهِيَةِ الصغر والمتوسِّطَةِ، وفاءً لديونِهَا القائمة بموجب تمويِلِهَا، وبِفِعلِ أزمة كوفيد-19 التي أثَّرَت على نشاطِهَا التشغيلي وتوازُنِهَا المالي. وقد وَصَلَت نسبة إدراج الشركات الصغيرة في السوق المالية ما نِسبَتُهُ 55% من إجمالي الإدراجات لعام 2022 (التقرير، صـ33).
رابعاً: الاستثمار الجريء: وهو يَعنِي الاستثمار في الشركات الصغيرة سريعة النمو، وبشكلٍ خاصٍّ شركات التكنولوجيا؛ لذا فإن الاستثمار الجريء يَتَرَكَّزُ في تمويل الشركات التقنية الناشئة بشكلٍ أساسيٍّ، وهو تمويلٌ معروفٌ بارتفاع نسبة المخاطر خاصَّةً مع انطِلَاقَةِ الشركات الناشئة.
وقد نَمَا قطاع الاستثمار الجريء في المملكة بشكلٍ مُذهِلٍ في عام 2022، بما نِسبَتُهُ 72% وبما قِيمَتُهُ مليار دولار تقريباً /987 مليون دولار/ (التقرير، صـ33). كما أنَّ الشركة السعودية للاستثمار الجريء قد استثمرت في مجال البرمجيات، وفي أحدث أنواع التقنيات التي تَعتَمِدُ على تخزين البيانات ومُعَالَجَتِهَا إلكترونياً (التقرير، صـ35).
وفي الواقع، فإن تقرير التطلعات المالية كان مُشرِقَاً جداً مع نهاية 2022، وكان صَائِبَاً في اختيارَاتِهِ للقطاعات التي تَستَحِقُّ الدعم تنميةً للابتكار ودعماً للتنمية البشرية، واستقلال الشباب، وتنافسية الاقتصاد.
لكن بعد أزمة انهيار سيليكون فالي (SVB) الأمريكي بداية عام 2023؛ فقد أصبحنا أمام تجربة تَستَحِقُّ النظر، تَتَعَلَّقُ بشكلٍ مِفصَلِيٍّ بالمحاور التي وَرَدَت في تقرير التطلُّعَات المالية.
فالبنك الأمريكي كان يَتعَامَلُ بشكلٍ أساسيٍّ مع شركات التقنية المالية الناشِئَةِ بغضِّ النظر عن حَجمِهَا، وكان يقوم بعمليات تمويلٍ خَطِرَةٍ للاستثمار الجريء، وبعد فترةٍ غامضةٍ شَابَهَا الكثير من النقاشات المحاسبيةِ وضَعفِ الحوكمة، أعلَنَ بنك سيليكون فالي انهِيَارَهُ التام في مارس 2023.
وبالنظر إلى الانتشار الواسع للقطاع التمويلي الذي كان يُمَوِّلُهُ البنك، فإنَّ بعض البنوك الأمريكية الأخرى أشهَرَت إفلاسَهَا تَوَالِيَاً.
يُعطِينا درس انهيار بنك سيليكون فالي عدة مُؤشِّراتٍ جديدةٍ لحوكمة الاستثمار الجريء، يمكن الأخذ بهذه المؤشِّرات تَجَنُّبَاً للإفراط بالتفاؤل فيما يَتَعلَّقُ بالمشاريع التقنية الناشئة إلى درجة تَجَاهُلِ مَخَاطِرِهَا أو عدم التَحَوُّطِ من هذه المخاطر كما يَجِب.
وعلى هذا، فإنَّ الحلَّ يكمن في إعادة النظر بمُسَاهَمَةِ الاستثمار الجريء في التنمية، وَوَضعِ هذا القطاع في خانة التقنية المالية محل المراجعة والنظر؛ خاصةً على صعيد التساهل في التمويل.
كما يمكن وضعُ معاييرٍ جديدةٍ لقياس المخاطر المالية الآتية من ممارسة التقنية المالية لأعمَالِهَا، وارتباط مَشَارِيعِهَا ببعضها بعضاً، فإذا حَدَثَ انهيارٌ في مشروعٍ ألاَّ يَنتَقِلَ إلى المشاريع من ذات القطاع.
كما أنَّ خصوصية تأسيس وإدارة مشاريع التقنية المالية تَجعَلُ من الضروري إصدار نظامٍ خاصٍّ بها، تحت مِظَلَّةِ نظام الشركات والسوق المالية، لكن بقواعدٍ أكثر مرونةٍ من حيث التأسيس وأكثر صرامةٍ من حيث التمويل، وطرح الأسهم، وإدراجِهَا في السوق المالية.
أمَّا بخصوص حوكمة شركات التقنية المالية وجميع المشاريع الصغيرة والمتوسطة، فيمكن تَقَبُّلُ الجرأة بالفكرة والمخاطر المالية، لكن لا يمكن تَقَبُّلُ الجرأة في مواجهة الصرامة المحاسبية وحوكمة الشركة.
بناءً عليه، نقتَرِحُ على هيئة السوق المالية إصدار لائحة حوكمةٍ خاصَّةٍ بالمشاريع الصغيرة والمتوسِّطة المُرتَبِطَةِ بقطاع التقنية المالية والاستثمار الجريء؛ بما يضمن مزيداً من الشفافية والانضباط المالي والرقابة وحسن إدارة المخاطر فيها.
تمَّ بفضل الله.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال