الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
بادئ ذي بدء تعد السياسات النقدية واحدة من أهم الأدوات الاقتصادية التي تعالج الأزمات والصدمات الاقتصادية كما أنها أيضا أداة لتحسين كفاءة الأداء الاقتصادي ، وهي بذلك تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على حياة الناس وعلى اقتصادات الدول وفق الأهداف التي من أجلها يتم استخدام هذه الأداة ، وعند الحديث عن السياسات النقدية في الغالب ، نجد أنها تتمثل عادة في قدرتها على ضبط نسبة التضخم والتحكم في سعر الصرف لتحقيق الاستقرار الاقتصادي.
تتعرض السياسات النقدية للعديد من التحديات مما يؤدي إلى تحولات اقتصادية سريعة مثل تصاعد حالات الأزمات المالية ، وانخفاض الثقة في الاقتصادات ، ومن هذه التحديات أيضا تقلبات السوق حينما يتأثر العالم بشكل كبير بسلسلة من الاضطرابات الجيوسياسية أو التحديات الاقتصادية والصحية ، مما يؤدي إلى تقلبات في الأسواق، وصعوبة في التعامل مع تلك الاضطرابات ، كما أنه وبصرف النظر عن تلك التقلبات إلا أنه قد يحدث مسبقا تداعيات كثيرة على خلفية تلك الأحداث مما يوصلنا في نهاية المطاف إلى خلل عميق في تلك السياسات النقدية عند تطبيقها.
دخل العالم في العاميين الماضيين حالة من الاضطرابات الاقتصادية التي خلفتها تداعيات جائحة كورونا والأزمات الجيوسياسية وإشكالات سلاسل الإمداد وتباطؤ العمليات الإنتاجية مما عصف بالاقتصاد العالمي نحو مشاكل عميقة تأتي في مقدمتها ارتفاع معدلات الضخم وطريقة معالجته برفع أسعار الفائدة مما ألقى بظلاله إلى نشوء أزمات مالية ضربت بدورها عددا من البنوك الأمريكية وغيرها.
يبدو حينها أن المعالجة بأداة واحدة من خلال السياسات النقدية عمق أيضا إشكالات الديون العامة وبدا واضحا التناقض جليا فيما بين سياسات التيسير الكمي والتشديد الكمي .. وعودة إلى تفسير معالجة التضخم كانت الاستجابة محدودة باتجاه واحد وهو رفع أسعار الفائدة على الرغم من توفر الكثير من الأدوات والأفكار التي تشملها النظريات النقدية ومنها على سبيل المثال النظرية الكينزية- نظرية تفضيل السيولة لكينز – والنظرية النقدية الحديثة وغيرها العديد من النظريات التي تفترض أن لديها من القوى ما يقوض معدلات التضخم ، من هنا بات معالجة التضخم بأداة واحدة فقط وهي رفع أسعار الفائدة هو من وجهة نظر المشرعين الحل الأمثل عطفا على براهين قطعية سابقة مثل أزمة 2008 فيما تزخر معظم النظريات بالعديد من الأدوات.
حتى هذه اللحظة لا زال القلق مخيما على النمذجة التقليدية للسياسات النقدية وتحركات معدل التضخم لاتزال ضمن مؤشرات ضعيفة ومحدودة جدا وفي المقابل فإن الاستمرار برفع أسعار الفائدة أحدث تداعيات جديدة من أهمها ارتفاع معدلات الدين العام والذي بدوره سيسهم حتما في ارتفاع تكاليفه ومن ثم تعمقت فجوة التصحيح بحدوث إشكالات جديدة تحتاج أيضا إلى معالجات حاسمة قبل فوات الأوان فضلا عن سياسات التيسير الكمي الذي سبق عاصفة التضخم.
لقد صاحب ما سبق من إشكالات الانعكاسات المالية الفورية والصادمة منذ بداية أزمة كوفيد – 19مما عقد المسألة بأن تكون السياسة المالية العامة واحدة من أحد العوامل الدافعة لزيادة التضخم، مما يعني أن المفاضلة الواضحة حاليا بإتباع سياسة نقدية عن طريق زيادة أسعار الفائدة فقط فتاريخيا كانت الصدمات تحدث في المقام الأول بسبب زيادة الطلب أو انخفاضه مع استثناء بارز وهو صدمات العرض أبان ما عرف باسم الركود التضخمي في السبعينيات ، أما اليوم فهناك صدمات عديدة ومن أهمها الطلب مقابل العرض، وعليه فإن السياسة النقدية في حد ذاتها لا تؤدي دوما إلى السيطرة على التضخم وهو ما أفضى إلى عدم الاستقرار المالي وكذلك الاستقرار الطبيعي في معدلات التضخم.
تقترح النظرية الاقتصادية الكلاسيكية في مثل هذه الحالات استخدام مزيج من السياسات النقدية والمالية وما يمكن ان يسهم بدوره في تحفيز الطلب الكلي مع الحفاظ على حيز مالي وافر لمتابعة الميزانيات لمثل هذه الحالات كشرط مسبق لاستقرار فعال ، أي أداة أخرى تحفز توفير الميزانية الاحترازية عن طريق التحكم في الإنفاق، كما أن النظرية الحديثة تقدم أيضا منظورا حول كيفية أن تؤدي التفاعلات النقدية والمالية بشكل مشترك إلى استقرار الاقتصاد وتجنبه خطر حدوث دوامة انكماشية ، وهو ما يُترجم إلى تحرير الطلب المكبوت لتجنب هذه الدوامة، وعليه فالسياسة النقدية تتطلب أسلوبا يرتكز على تفسيرات واضحة للمتغيرات المفاجئة والغير متوقعة (بدون صدمات) ومن ثم تفسيرات منطقية في سيناريو الاقتصاد الكلي وذلك من خلال النظر ولمجرد النظر إلى الماضي كوسيلة إرشاد فحسب وما سيحمله المستقبل مع الوضع في الاعتبار أنه مهما كان الاقتصاد ديناميكيا لكن لا يعني ذلك أنه لن تحدث أخطاء في التنبؤات.
يعتقد الكثير من الخبراء لمواجهة هذه المشكلات، أنه يجب على البنوك المركزية أن تعود إلى اتباع منهج مالي ونقدي تتمثل أولويته القصوى في تحقيق استقرار للتوقعات التضخمية وسبل استقرار الأسواق المالية فضلا عن رفع كفاءة الطلب الكلي..
يتبع الأسبوع القادم…
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال