الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يكتسب السلوك الاستهلاكي الرشيد من قبل الفرد والمجتمع أهمية خاصة في معالجة المشكلات التي تنشأ عادتناً ضمن تقلبات الأحوال الاقتصادية بسبب عوامل مختلفة وفي هذا الإطار تبرز أهمية الادخار، الذي يمثل ذلك الجزء من الدخل المتاح غير الموجه نحو الاستهلاك الحالي، باعتباره أحد وسائل تمويل الاستهلاك المستقبلي.
ولقد بين لنا الحق سبحانه وتعالى ذلك في القرآن الكريم حينا أخبرنا عن نبيه يوسف -عليه السلام – عندما فسر للملك الرؤيا وأخبره عن قرب وقوع كارثة ومشكلة اقتصادية سوف تحل بمصر تتمثل في نقص في الإنتاج بسبب ما يحل بالأرض من جدب، ينتج عنه نقص في الإمداد الغذائي، وعلاجا لهذه المشكلة الاقتصادية، طرح القرآن رؤية مناسبة من خلال قوله تعالى: يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ أَفۡتِنَا فِي سَبۡعِ بَقَرَٰتٖ سِمَانٖ يَأۡكُلُهُنَّ سَبۡعٌ عِجَافٞ وَسَبۡعِ سُنۢبُلَٰتٍ خُضۡرٖ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٖ لَّعَلِّيٓ أَرۡجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَعۡلَمُونَ (46) قَالَ تَزۡرَعُونَ سَبۡعَ سِنِينَ دَأَبٗا فَمَا حَصَدتُّمۡ فَذَرُوهُ فِي سُنۢبُلِهِۦٓ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تَأۡكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ سَبۡعٞ شِدَادٞ يَأۡكُلۡنَ مَا قَدَّمۡتُمۡ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تُحۡصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَامٞ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعۡصِرُونَ (49)
إن الآيات السابقة في مجملها تبين المشكلة الاقتصادية التي قد تحدث تحت تأثير تقلبات العوامل الطبيعية، ثم تقدم رؤية متكاملة لعلاج هذه المشكلة، وهو العلاج الذي تتبين لنا عناصره من خلال مقتضى الآيات التالية:
1- قال تعالى: قَالَ تَزۡرَعُونَ سَبۡعَ سِنِينَ دَأَبٗا فَمَا حَصَدتُّمۡ فَذَرُوهُ فِي سُنۢبُلِهِۦٓ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تَأۡكُلُونَ (47)، “وهو أن يعمل الناس بنشاط وبدون كسل”، مما يؤدي إلى رفع الإنتاج إلى أعلى مستوياته، تأكيدا على نظرية توازن العرض مع الطلب وأهميتهما في الدورة الاقتصادية، وحتى لا يحدث اختلال في توازن العرض والطلب يتوجه الناس إلى الادخار الحالي لمواجهة الاستهلاك المستقبلي لأن الدخل عندها سيزيد مع زيادة الإنتاج، مما يثري جانب المدخرات في المجتمع، ويزيد بذلك الاستثمار وتنوع الإنتاج مستقبلا، وهذا يأتي تماشيا مع طبيعة الإنسان التي تميل إلى الادخار عند زيادة الدخل.
2- كيفية حفظ السلع العينية، إذ إن المحاصيل الزراعية تحتاج إلى مواد حافظة كي لا يصل إليها الفساد، وقد بينت الأبحاث العلمية والدراسات أن القمح بعد الدرس والطحن يستخدم مباشرة، أما إذا أريد ادخاره فيترك في سنبله كي لا يصل إليه السوس فيخربه، فيصعب ادخاره؛ لأجل ذلك أرشد سبحانه في قوله:( فَذَرُوهُ فِي سُنۢبُلِهِۦٓ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تَأۡكُلُونَ)، وقس عليها وسائل الحفظ الحديثة.
3- إعداد المجتمع وتوعيته بأهمية ترشيد الاستهلاك؛ لكي يكون أكثر قوة وتحملا للأزمات الاقتصادية، قال تعالى: (إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تَأۡكُلُونَ)، وهذا نص بالحث على مبدأ الترشيد، وحدود الكفاية دون حد الكفاف، ففي مثل تلك الظروف فإن الاقتصاد مثل الجسد الواحد حينما يمرض، يشد بعضه بعضا.
4- قال سبحانه وتعالى: (ثمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ سَبۡعٞ شِدَادٞ يَأۡكُلۡنَ مَا قَدَّمۡتُمۡ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تُحۡصِنُونَ (48)، الاعتناء بالجانب الصحي ممثلاً في سلامة الغذاء ، بحيث يوضع في مكان نظيف لا تصل إليه مادة الفساد، وحتى يبقى متاحا للاستخدام الآدمي، وكذلك الاعتناء بالجانب الأمني الاقتصادي، وهو أشد ما يكون خطرا على حياة الدول في الماضي والحاضر، وعدم استغلال الأعداء لمثل هذه الأزمات، فتعتبر نقطة ضعف ينهار بسببها المجتمع والدولة، لذلك وجههم سبحانه إلى (الإحصان)، ويعني: وضع المدخرات في مكان آمن.
5- أن المقصود في القرآن الكريم تداول المال، ورفض كل أشكال الاكتناز، الذي هو بمجمله إخراج المال عن دائرة التداول والاستثمار والإنتاج، فالاكتناز بكل أشكاله مما يضر بمصالح المجتمع, والإدخار كممارسة وسلوك اقتصادي أمراَ مطلوب يحثنا عليه القرآن الكريم , وهو لا يدخل في أي حال من الأحوال ضمن فكرة الاكتناز , وإنما يندرج ضمن فكرة التداول عبر الزمن , باعتباره تداولاً مؤجلاً يتم تحققه في المستقبل , فكل ادخار حالي أنما هو في حقيقته هو استهلاكاً أو استثماراً يحصل مستقبلاً .
6- إن اتخاذ الحلول المناسبة للمشاكل الاقتصادية من واقع التجربة في مواجهة الكوارث الاقتصادية والاعتناء بجانب الطلب والعرض عند معالجة المشاكل الاقتصادية كل شيء فيما يناسبه لهو من صميم القرار الصائب.
مما تقدم تبرز أهمية السياسة الاقتصادية الرشيدة من منظور القرآن الكريم التي توازن بين العرض والطلب عبر الزمن بما يسهم في معالجة المشكلة الاقتصادية في معالجة المشكلات الاقتصادية وفقاً لطبيعتها.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال