الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
كان العالم يتحرك ببطء نحو الرقمنة والخدمات الإلكترونية حتى جاءت جائحة كورونا لتزييت العجلة وتسريع التحول الرقمي في شتى القطاعات خصوصاً لدينا في المملكة وسأكتفي هنا بالحديث عن قطاع يمس الحياة اليومية للمواطن ويتسم بحساسية فائقة يرتبط بها مصير الملايين من الأسر ألا وهو القطاع المالي.
شخصياً، مشيت على الأرض مرحا عندما صدر قرار إلزام كل نقاط البيع في المملكة بتوفير خيار الدفع بالبطاقة للعملاء ليقيني التام بأن هذا القرار سيشكل ضربة قاصمة للتستر التجاري المتغلغل في أسواق المملكة منذ عقود لأسباب سيسعفني الوقت لذكرها في يومٍ ما، لكن فرحتي لم تدم طويلاً فما لبث أصحاب المتاجر المتستر عليها أن وجدوا بديلاً لجملة “الشبكة عطلانة” التي استخدموها للتهرب من الضرائب والرقابة المالية وذلك البديل كان توفير أجود أجهزة حلول الدفع الذكي فما الذي تغير؟!
لا أقول لك أنني ارتديت قبعة المحقق لسبر أغوار هذه العوالم لكن المنطق وأخفض معدلات الذكاء البشري تخبرك أنهم يستخدمون أجهزة تعود أحياناً لأنشطة تجارية متعددة في مناطق مختلفة وشركات تقدم خدمات الدفع مما يجعل التدفقات النقدية للمتجر الواحد تتوزع في عدة حسابات في إجراء تمويهي تهربي صريح، لكن كيف ومتى وأين فتحت كل تلك الحسابات؟
طبعاً بسبب التحول الرقمي المرعب في القطاع المالي أصبحت مسألة فتح حساب بنكي أو محفظة رقمية لفرد أو شركة أو مؤسسة تتم في أقل من دقيقتين بسبب أنظمة الربط المتقدمة لدينا برئاسة النظام الحكومي السعودي المثير للإعجاب “أبشر” والحلول التقنية الرائعة التي يوفرها مركز المعلومات الوطني وغيره من الجهات الحكومية، لكن هل تلك الحسابات التي فُتحت بطرق قانونية تُغلق عندما تفقد قانونيتها؟
أميل للقول أن الإجابة ستكون نعم بحكم الرقابة الصارمة للبنك المركزي السعودي لكن هل امتلك كل الأفراد الرقابة الذاتية على حساباتهم البنكية حتى لا تكون معبراً للأموال المشبوهة بل هل يتمتعون بالحد الأدنى من الثقافة الرقمية التي تمنع وصول المحتالين وغاسلي الأموال إلى حساباتهم؟
هنا تتضح الإشكالية فالعالم الذي كان يتسيده الكاش المسحوب من بطاقة لا يعرف أرقامها الأربعة سوى حاملها أصبح عالماً قد لا تضطر فيه لحمل محفظتك بالكلية فأموالك مجرد أرقام في شاشات تطبيق بنكك وبياناتك ووثائقك تسبح في أعقد سيرفرات الويب وفي أكثرها هشاشة في الوقت ذاته فلربما كفتك عملية شراء إلكتروني بعشرة ريالات من موقع رسمي لشركة ما لتصفير حسابك بسبب أنك أضفت معلومات بطاقتك البنكية في موقع يعتبر اختراقه مجرد تسليه سريعة لمبتدئي الهاكرز.
التفكير الابداعي لدى المحتالين مدهش إلى حدٍ كبير بالنسبة لي فقد شهدت على العديد من حالات الاحتيال المبتكرة التي تستحق التصفيق لعقول مهندسيها لو لم تكن في أوجه الشر فهذا يصمم موقعاً متكاملاً مطابقاً لأحد المواقع الإلكترونية التي تقدم التذاكر للأنشطة والفعاليات لسرقة بيانات البطاقات البنكية للضحايا بل ويتمكن من الإعلان لرابطه الوهمي عبر برامج التواصل الاجتماعي وذاك يتصل من هاتف ما على ضحية مدعياً أنه موظف في جهة مالية وقد يخاطبه باسمه ويقدم له جزءًا من بياناته الخاصة التي قد يكون حصل عليها باختراق بيانات متجرٍ ما أو ببعض التقنيات البسيطة التي تظهر اسم صاحب الجوال ليشعر ذلك الشخص بالارتياح ويقدم للمحتال ما يحتاجه من أرقام سرية أو أكواد تحقق وغيرها وفي كل مرة تنكشف أساليب هؤلاء المحتالين يفاجئونك بالجديد ولا يخرج الأمر عن سببين برأيي إما استغلال بعض الثغرات التقنية في المواقع التجارية وإما العمل على الجهل التقني لدى بعض أفراد المجتمع خصوصاُ من كبار السن ومن العمالة الوافدة.
في الحقيقة، لدي قناعة راسخة أن النظام المالي في المملكة يعد من أكثر الأنظمة أمنا في العالم ويكاد يستحيل اختراقه والوصول لحسابات المستفيدين لكن السببين سالفي الذكر يتطلبان وقفة جادة وحازمة لتعزيز البرامج التثقيفية والتوعوية التي تستهدف على وجه الخصوص الفئات الأكثر عرضة لجرائم الاحتيال وتكثيف الرقابة على الحسابات البنكية والمحافظ الرقمية وحلول الدفع الإلكتروني فيما يتعلق بمعرفة العميل وسلوكه ومكافحة الاحتيال وغسل الأموال.
ختاماً، تجاوزت التحويلات الخارجية الشخصية للسعوديين والأجانب مبلغ 210 مليار ريال سعودي لعام 2022 ما يمثل قرابة 7% من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للعام ذاته فكم حصة المحتالين والمتستر عليهم وغاسلي الأموال من هذه الكعكة؟ ما حصتهم من التحويلات التجارية دعك من الشخصية؟ لا أعلم لكنني متأكد أن لاجتهادهم نصيب في عالم تقني يجعل المحتال يختال بما جناه من مجرد حاسوب على مكتب مهترئ في وسط اللامكان.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال