الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
سيَعرض هذا المقال تجربة المكتب الأيرلنديّ DA Ireland الفعّال في جذب الشركات الأجنبية إلى أيرلندا، والأسباب القانونيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تساهم في هذه الموجة، مع ربط ذلك الانتقال إلى أيرلندا بالتزام مجالس إدارات الشركات من خلال الرجوع إلى نظام الشركات في ولاية ديلاوير.
بدايةً، تشير الدراسات المتعدّدة التي اطلعت على بعضها إلى العديد من العوائد الإيجابيّة لجذب الاستثمارات الأجنبيّة؛ لما له من الأثر الاقتصاديّ على الناتج الإجماليّ لأيّ دولة، والزيادة في رفع معدّلات التوظيف، وتوجيه الاستثمار إلى القطاعات التي يصعب تطويرها، وجلب الخبرات التي قد تطغى على سلبيّات الاستثمار الأجنبيّ. لهذا، من الطبيعيّ وجود تنافس بين الدول لتوفير بيئة جاذبة لاستقطاب الشركات، ورؤوس الأموال إليها.
أيرلندا، تلك الدولة الصغيرة التي لا يتجاوز عدد سكّانها 5 مليون نسمة، تحتلّ مكانة عالية كمركز جذب للاستثمارات الأجنبيّة، فحسب بعض التقارير، ما لا يقلّ عن 800 شركة أمريكيّة قد اتّخذت أيرلندا مركزاً لها.
ويأتي على رأس القائمة شركة ألفابت، وهي الشركة المسيطرة على شركة قوقل، وأمازون، والفيس بوك، وأنتل، وشركة أبل، وبنك أوف أمريكا، وغيرها من الشركات الأمريكيّة العملاقة، باستثمارات تتجاوز 270 مليار دولار حسب هذه التقارير، وبتوفير 250 ألف فرصة عمل لمواطني أيرلندا، والأهمّ من ذلك هو نقل الخبرات إلى هؤلاء المواطنين الأيرلنديّين بعد عملهم لدى تلك الشركات. وازدادت وتيرة تزحزح الشركات التقنيّة والأمريكيّة نحو التمركز في دبلن، العاصمة لجمهورية أيرلندا، بعد خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبيّ، وهذا ينطبق على شركات الفنتك الناشئة Fintech.
بالاطّلاع على موقع IDA Ireland التابع للحكومة الأيرلنديّة، والمعهود له بجذب الاستثمارات الأجنبيّة، نرى أنّه يشير إلى وجود عوامل مختلفة تؤدّي إلى اختيار تلك الشركات لدولة أيرلندا. من هذه العوامل ما يعود إلى أسباب اجتماعيّة، حيث يتمتّع المجتمع الأيرلنديّ بغلبة فئات الشباب مقارنة بالدول الأوروبيّة الأخرى، وأيدٍ متعلّمة على مستوى متقدّم من التأهيل، فضلاً عن البنية التحتيّة المتطوّرة المهمّة لمثل هذه الاستثمارات. ويضيف الموقع أيضاً انفتاح بيئة الاستثمار الأيرلنديّة، حيث تعدّ أكثر مرونة وسهولة في الوصول إلى رؤوس الأموال والمستثمرين، وربطهم بمن يحتاجون تلك الاستثمارات. وبعد خروج بريطانيا، أصبحت أيرلندا الدولة الوحيدة في الاتّحاد الأوروبيّ المتحدّثة باللغة الإنجليزيّة؛ ممّا قد يعطيها أفضليّة على باقي الدول الأوروبيّة، ومركزاً استراتيجيّاً لتلك الشركات للدخول إلى السوق الأوروبيّ. وتضيف بعض الدراسات القانونيّة التي اطّلعت عليها ميزةً أخرى لأيرلندا، مثل استقرار الأنظمة القانونيّة، وعدم التدخل الحكوميّ الكثير، كعوامل أخرى لتمركز الشركات الأجنبيّة في دبلن. ولكن، ما مدى دقّة هذا الحديث؟
هناك أسباب أخرى مهمّة قد تفسّر نزوح الشركات إلى أيرلندا، ولكن لا يشير إليها موقع IDA الإيرلنديّ بسبب النكت المستمرّة على الاقتصاد الأيرلنديّ فيما يتعلّق بمعدّل الضريبة على أرباح الشركات، وضعف صرامة تنفيذ القوانين في مجال حماية البيانات والخصوصيّة كما سنرى.
تعدّ ضريبة الأرباح على الشركات في أيرلندا أقلّ ممّا هي عليه في الموطن الأصليّ لهذه الشركات، والأقلّ في أوروبا بشكلٍ عامّ، بمعدّل ١٢.٥%، فضلاً عن الخصومات الضريبيّة المقدَّمة للشركات الناشئة، مثل الفنتك. وعليه، يرى البعض أنّه لولا تلك الخصومات الضريبيّة، لَما جاءت تلك الشركات إلى أيرلندا. ومن هنا منبع السخرية، حيث يجد القارئ الكثير من النكت على اقتصاد أيرلندا، خاصّة عندما تعلِن ارتفاعات في ناتجها المحليّ. فعلى سبيل المثال، يناكف الاقتصاديُّ الحاصل على جائزة نوبل بول كروغمان في تغريدة مشهورة على حسابه في تويتر الاقتصادَ الأيرلنديّ بتسميته Leprechaun، بمعنى “الاقتصاد الفلكلوريّ”، أو “المشاكس”. لهذا يرى الكثير من الاوربيون أنّ أيرلندا تسرق رغيفهم.
ولعلّ هذه النكت والاتّهامات هي السبب الذي يمنع موقعIDA من الإشارة إلى المعدّل الضريبيّ كميزة أو سبب مباشر لقدوم تلك الشركات إليها، بل ونرى أنّ هناك امتعاضاً ورفضاً قاطعاً من صنّاع القرار في أيرلندا لهذه الوصمة، رافضين فكرة أنّ معدّل الضريبة هو وحده السبب الرئيسيّ في هروب الشركات الأمريكيّة إليها، ومعلّلين رفضهم بأنّ لدى جارتها هنغاريا معدّل ضريبيّ أقلّ منها بكثير (٩%) على ضريبة أرباح الشركات.
ولكن، إذا نظرنا من الزاوية الأخرى للشركات القادمة إلى أيرلندا، فقد نفهم بشكل أكبر نزوح تلك الشركات الأمريكيّة إلى أيرلندا إذا ما فهمنا قانون الشركات الأمريكيّ، وتحديداً ولاية ديلاوير، حيث يتوافق هذا النزوح مع التزامات أعضاء مجالس إدارات الشركات، وهناك في المحاكم الأمريكيّة الكثير من القضايا التي أكّدت هذا الحقّ بعد محاولاتٍ تاريخيّةٍ، وضغطٍ من البعض لتغيير مكان تسجيل الشركات من ديلاوير إلى كاليفورنيا على سبيل المثال؛ وذلك تلبيةً لمصلحة بعض المساهمين الذين يرون المناخ الكاليفورنيّ القانونيّ مرناً من ناحية المسؤوليّة الاجتماعيّة حوكميّاً، ويعزِّز مصلحتهم في الدرجة الأولى بمطالبات اجتماعية وسياسية ومناخية مقارنة بدولاير.
فكا يعرف الكثير حيث على أعضاء مجالس إدارات شركات ديلاوير تقديم مصلحة الشركة والمساهمين على كلّ المصالح، وحتّى الوطنيّة، أو المجتمع الأمريكيّ، فيكون قرارُ اختيار مركزِ الشركة منبثقاً عن التزامات العناية والولاء، ومبنيّاً على دراسة وعناية، ومحقِّقاً مصلحة الشركة والمساهمين في نهاية المطاف دون أيّة اعتبارات أخرى، وليس قراراً عشوائيّاً. وعليه، متى ما وُجدَت بيئة تمنح معدّلاً ضريبيّاً أقلّ، مع ثبات بقيّة الظروف، قد يكون النزوح لزاماً على من يقف خلف الشركة. ولهذا، حتّى مع صرخات السياسيّين الأمريكيّين بطلب عودة تلك الشركات الأمريكيّة إلى موطنها الأصليّ، مع الكثير من الوعود الانتخابيّة، لا نرى هناك أيّ استجابة.
والسبب الآخر الذي تشير إليه بعض الدراسات القانونيّة، إلى جانب معدّل الضريبة الجاذب في أيرلندا، هو صرامة فعاليّة تنفيذ القوانين على تلك الشركات في موطنها الأصليّ، وبالذات فيما يتعلّق بحماية المعلومات والبيانات، والقوانين المتعلّقة بالخصوصيّة، حيث تجد تلك الشركات ضالَّتها في أيرلندا، وهذا ما نراه يحصل في قضيّة Tiktok، ذلك البرنامج الشهير الذي يحاول مجلس إداراته طمأنة المجتمع الدوليّ، لا سيّما الأمريكيّ، بذهابهم إلى أيرلندا، وتخزين معلومات المستخدمين هناك.
حقيقةً، لا أقصد من قريب أو بعيد عدم أهمّيّة وجود بيئة تشريعيّة جاذبة، ولكن إن كان قدوم الشركات إلى بيئتك ناتجاً عن معدّل الضريبة فقط، أو عن أسباب محدودة وقتيّة، فقد يكون ذلك مؤشّراً خطراً على أيّ دولة، حيث إنّ تساوي المعدّلات الضريبيّة على المستوى الدوليّ قد يسحب البساط من تلك الدولة مسبِّباً هجرة تلك الشركات إذا أخذنا بالتزامات أعضاء مجالس إدارات الشركات تقديم مصلحة الشركة على أيّ مصلحة.
وعليه، يكون السؤال: هل تختفي ميزة أيرلندا هذه مع النداءات المتكرِّرة لفرض ضريبة على الشركات تحت مظلّة منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنميةOECD ، بحدّ أدنى ١٥٪ على الشركات متعدّدة الجنسيّات، أو مع مشروع قرار الاتّحاد الأوروبيّ بفرض ١٥٪ كحدّ أدنى ضريبيّ على الشركات متعدّدة الجنسيات؛ للحدِّ من انتقال الشركات متعدّدة الجنسيّات إلى بيئة أقلّ ضريبيّاً، أو لن يكون هناك أيّ تأثير سلبيّ على أيرلندا؟ بمعنى آخر، هل سيؤدّي رفع معدّل الضريبة تحت الضغط الدوليّ أو الأوروبيّ بالضرورة إلى مهاجرة تلك الشركات، أم أنّ كفّة العوامل الأخرى، مثل البيئة القانونيّة والاقتصاديّة الاستثماريّة المشجّعة لدولة أيرلندا، سترجح على كفّة تساوي المعدّل الضريبيّ؟
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال