الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
بعد وضعنا للتصوّر العامّ لظاهرة “قتل الشركات”، نتحدّث في هذا الجزء عن بعض التحدّيات التي تواجهها أجهزة المنافسة في تطبيق قوانين المنافسة على مثل هذه الصفقات، والعلاج الذي يطرحه البعض انطلاقًا من قانون المنافسة، والتعديلات التي أُدخلت على قوانين المنافسة في السوق الأوربيّ. ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك في معالجة منهجيّة شاملة تحت أطر قانون السوق الماليّة، والشركات أيضًا، تحديدًا في التخارج من قبل المستثمر الجريء مقارنة بالطرح IPO، والذي قد يجعل المؤسّسين أكثر انفتاحًا للتخارج من الشركة؛ حتّى لا يكون هناك منع لبيع أسهمهم كما تتطلّبه قواعد السوق الماليّة.
يكاد ينصبّ جُلّ تركيز أجهزة المنافسة على الصفقات التي من المحتمل أن تؤدّي إلى زيادة في الأسعار أو تقليل خيارات المستهلكين، وقليلًا ما يُنظر إلى الصفقات على أنّها تشكّل احتماليّة لعرقلة الابتكار أو التطوير. ولكن، مع انتشار مثل هذه الممارسات -كما ذكرنا في الجزء الأوّل مع فضيحة الإيميلات المسرّبة من عدد من رؤساء شركات تنفيذيّة أمريكيّة التي وَرَد فيها: “دعنا نشتري الشركات الصغيرة قبل أن تكبر وتنافسنا”-، بدأت بعض الدول الأوربّيّة بمراعاة ومنع مثل هذه الصفقات، كما في الصفقة بين شركة طبيّة Illumina مع شركة Grail ، على الرغم من عدم وجود حاجة إلى التبليغ.
لا شكّ أنّ أجهزة المنافسة تواجه قرارات صعبة كلّ يوم، ويأتي في مقدّمة ذلك قرارها حول التدخّل في منع الصفقة من عدمه، ومدى نجاح حملتها لو تدخّلت… إلخ. من حيث المبدأ، هناك انقسام بين أجهزة المراقبة، فهناك من يرى التدخّل هو القاعدة، في حين لا ترى فئة أخرى التدخّل إلّا من باب الاستثناء، وسينعكس اتّجاه كلّ فريق على منهجيّة عمل جهاز المراقبة، فلدى المنهج الأمريكيّ -كما ذكر لي أحد الممارسين في لقاء في ورشة عمل لدى جهاز المراقبة الأمريكيّة- اعتقاد ضمنيّ بسلامة كلّ الصفقات ما لم يثبت العكس لدى FTC.
وهذا انعكاس لممارسات منذ عهد ريغان الممتدّ أثرها إلى وقتنا الحاضر في أن يقف مراقبو المنافسة كالحكم عبر ضبط قواعد اللعبة، ومتى ما كانت هناك صفقة قد تؤثّر في دينامكيّة السوق، تأتي ضرورة التدخّل من أجهزة المنافسة. ولكن مؤخّرًا، بدأ هذا المنهج يتزحزح مع رئيسة FTC الجديدة التي أعلنت الحرب تجاه الشركات التقنيّة، وهو ما انعكس حتّى في كتابتاها الأكاديميّة.
ولكنّ قرار التدخّل قد أصبح أصعب مع التحوّل الاقتصاديّ الرقميّ والتقنيّ، حيث أصبح من الصعب على أجهزة المراقبة تقدير الحصص السوقيّة للشركات، لا سيّما إذا كانت عابرة للحدود، أو ذات آثار قد لا تظهر في المستقبل القريب. ونجد في صفقة استحواذ الفيسبوك على الواتس أب مثالًا على ذلك، فليست محاولة هيئة المنافسة الأمريكيّة FTC إلّا محاولةً بائسة لإلغاء الصفقة، ويشهد على ذلك تذمّر القاضي من مذكّرتها القضائيّة كمثال جيّد لصعوبات ذلك؛ إذ حاولت FTC فكّ الصفقة بإثبات سيطرة الفيسبوك على نسبة كبيرة من سوق التواصل الاجتماعيّ إحصائيًّا، ووضعها أرقام الحصص السوقيّة لفيسبوك بشكل تقديريّ، الأمر الذي رأته المحكمة عبارة عن أرقام اعتباطيّة، ورُفضَت المذكّرة القضائيّة والقضية برمّتها.
وهناك مثال آخر يعقّد مسألة التدخّل من عدمه، وهو اختيار حدود الرقم الواجب على أطراف الصفقة تبليغ جهاز المراقبة به متى ما تجاوز قيمة الصفقة أو المبيعات السنويّة حسب اشتراطات قوانين المنافسة، فمتى ما كان الرقم مرتفعاً، سَهُلَ عمل الهيئة من خلال التركيز على الصفقات التي قد ينشأ عنها تركّزات اقتصاديّة غالباً؛ لما فيها من مخاطر على السوق، وهذا ما قد لا يحدث إن كان الرقم منخفضاً، حيث ستتدخّل الهيئات في كلّ صفقة، ممّا يعرّض عملها لأن يكون اعتباطيّاً وغير متوقَّع.
ولكن، من حقّ القائل أن يتساءل عن معنى “مرتفع أو منخفض” من الناحية القانونيّة البحتة كصياغة تشريعيّة، وهنا مكمن الفرس، فقد لا تكون للشركات المناط بحمايتها حتّى مبيعات سنويّة. وعلى الرغم من أنّ لائحة المنافسة السعوديّة -على سبيل المثال- قد منحت الهيئة في المادّة ١٢ الفقرة ٢ السلطة التقديريّة للتقدير في حالة استحالة التقدير أو عدم اكتمال السنة الماليّة للشركة، إلّا أنّ الفكرة الأساسيّة التي تقف خلفها الدوافع إلى هذا الاستحواذ القاتل ما زالت تلوح في الآفاق، فاستحواذُ شركاتٍ مثل شركة الاتّصالات السعوديّة أو الأمازون أو مايكروسوفت على شركة ناشئة تقنيّة لا يلفت النظر أو يثير اللغط؛ بحجّة عدم وجود الضرر الجسيم على المنافسة، وتزداد الصعوبة إذا كانت الشركة المستحوِذة ضخمة في مختلف الصناعات Conglomerate، وهنا قد لا يرى مراقبو أجهزة المنافسة أنّ مثل هذه الصفقات قد يؤدّي إلى الإضرار بالمنافسة بشكلٍ مباشر في الوقت القريب، أو لا يرون أنّ الأمر قد وصل إلى ظاهرة “التصيّد المفترس”، وهي الممارسة التي تقوم بها بعض الشركات الكبرى التقنيّة، وذلك بافتراس الشركات الصغيرة واحدةً تلو الأخرى، والتي بدأت FTC الأمريكيّة بالالتفات إليها. لكن لو عدنا إلى المثال السابق، فالشركة المستهدَفة للاستحواذ عليها ما زالت في مرحلة تطويريّة أو تجريبيّة.
وممّا يعقّد المسألة أنّ استحواذ الشركات العملاقة على الشركات الناشئة يصعب تصنيفه تحت إطار شركات تتنافس مع بعضها البعض أفقيًّا أو رأسيًّا، حيث تعتمد قوانين المنافسة التي اطّلعت عليها، ومنها السعوديّ، على هذا التصنيف، فهي أكثر انتقادًا ومراقبة للصفقات الأفقيّة بين شركات تنافس بعضها البعض أفقيًّا أكثر من الرأسيّة. ولا شكّ، تَصعب المسألة إذا كانت بين شركة غير مرتبطة، فكيف ستعالجها أجهزة المنافسة، هذا إن التفتت إليها أصلًا؟
وحتّى الآن لم يتبلور في أنظمة المنافسة بشكلٍ واضح ما يسمّى بالضرر المحتمل المستقبليّ من استحواذ شركة عملاقة على شركة تقنيّة ناشئة كما في مثالنا السابق. ومن المهمّ أن يعي القارئ أنّنا لا نعني من حديثنا عدم اهتمام أنظمة المنافسة بحماية الشركات المتوسّطة والصغيرة، ولكن غالبًا ما يُنظَر إليها من زاوية ضيّقة تدور حول عوائق وتكلفة الدخول إلى السوق، وظروف السوق، ونسبة السيطرة الجغرافيّة… إلخ. بمعنى آخر، تحرص أجهزة المراقبة تحت باب حماية الشركات المتوسّطة والصغيرة على توفير سوق عادل أو فرص متكافئة، أو ما يسمّى بـ Level Playing Field، كما تحرص على فلترة الممارسات الاحتكاريّة، مثل منع التعامل والمعاملات التفضيليّة… إلخ. ولكن، قلّما أن يُتوسَّع في هذه النظرة للنظر فيما إذا كان هدف الاستحواذ قتل الشركة تمامًا. ولهذا، يتحفّظ المعنيّون في تطبيق قوانين المنافسة في تدخّلاتهم؛ لوجود الانطباع حول الأثر غير الجسيم لمثل هذه الصفقات في الوقت الحاليّ أو القريب سنة أو سنتين، ولكون التدخّل الحكوميّ قد يعيق الابتكار والتضافر synergy بين الشركات، فضلًا عن أنّ التدخّل قد لا يَسلم من التطبيق الاعتباطيّ، وقد يُنتِج أثرًا سلبيًّا نتيجة تأخّر اكتمال الصفقات -في حالة تطلب التبليغ-؛ ممّا ينتِج بيئة استثمارات غير مرغوبة.
مع التحوّل الاقتصاديّ السعوديّ، وتزايد المنصّات التقنيّة وما يتضمّنها من الذكاء الاصطناعيّ، والتزايد في استعمال الخوارزميّات، أصبح من المهمّ دراسة هذه المسألة على مستوى البيئة السعوديّة، فكما تساعد الخوارزميّات والذكاء الاصطناعيّ في رفع فعاليّة أداء الشركة وتخفيض التكلفة… إلخ، تُستخدم أيضًا في منح معاملات تفضيليّة أو رفع الأسعار لبعض المستخدمين عندما تكون شركة تقنيّة ما مسيطرةً، كما هو الحال في مواقع الطيران والفنادق حسب تقرير لهيئة المنافسة الألمانيّة، أو في القضيّة الأمريكيّة لهيئة المنافسة الأمريكيّة في قضيّة Topkins.
من ناحية الحلول والمنهجيّة القانونيّة البحتة، تكمن الصعوبة في ضبط عدد من الفرضيّات، فهناك حاجة إلى توفير بيئة تنافسيّة تُلبّي احتياج الشركات الناشئة من الاستثمارات والأموال لتكمل مسارها في البحث والتطوير، وربّما التوصّل إلى منتجات مبتكرة، وفي نفس الوقت، هناك حاجة إلى فلترة الاستحواذات التي تهدف فقط إلى قتل الشركات الناشئة وتقليل المنافسة، وبالتالي تقليل خيارات المستهلكين مستقبلًا.
ويصبح هذا الميزان أكثر تعقيدًا في اقتصاد قائم على التكنولوجيا مع انتشار منصّات الفنتك… إلخ، حيث يصعب تحديد مفهوم السيطرة control، خاصّة مع شركات عابرة للحدود، ومنتجات وخدمات تُقدَّم مجّانًا لطرف المستهلك، في حين أنّ طرفًا آخر يدفع في نفس المعادلة، مثل شركة قوقل التي تسمح لك بالبحث مجّانًا، ولكنّها تستغلّ معلوماتك وبياناتك حتّى تُوجَّه إليك كمستهلك مبيعاتٌ محدّدة. فلم تعهد فلسفةُ قوانين المنافسة التي جاءت أصلاً لحلّ مشكلة مختلفة عمّا هو عليه وضعنا اليوم مثلَ هذه التحدّيات القانونيّة، حيث كان الهدف في العهد السابق الاستحواذ والاحتكار ورفع الأسعار على المستهلك النهائيّ، أمّا اليوم، فتُقدَّم الخدمات مجّانًا.
قد يقول قائل لا داعي للدور الحمائيّ هنا؛ لكون هذه الشركات الناشئة ما زالت في طور النموّ، ودون مبيعات سنويّة حتّى. ولكن، تُظهر الدراسات أنّ نموّ هذه الشركات الناشئة، وبالذات التقنيّة منها، سريع مقارنة بالشركات الأخرى في القطاعات الأخرى، لا سيّما بعد أزمة كوفيد. لهذا، نرى بعض الدول، وعلى رأسها بريطانيا، تحاول التحديث من قوانينها لتغطّي ثغرات وتحدّيات هذا العالم الجديد. وهذا ليس ببعيد عن الوضع الأمريكيّ، فلطالما صرّح مراقبو أجهزة المنافسة الأمريكيّة بكفاية أنظمتها الحاليّة لاحتواء معضلة “قتل الشركات”. ولكن، بعد التقارير الأخيرة والرصد لما قامت به الشركات العملاقة مثل الفيس بوك وقوقل وأبل، نرى اهتزاز لموقف FTC هيئة المنافسة الأمريكيّة. وهذا يأخذنا إلى الوضع في السعوديّة، لا سيّما مع الارتفاع الملاحظ لاستثمارات شركات المال الجريء CVC في قطاع التقنيّة الذي عقّدَ المسألة في أيدي منفّذي أنظمة المنافسة، خاصّة مع تقاطع الفكرة الاقتصاديّة network effect.
ولهذا، يتوجّب أن يكون أسلوب المعالجة القانونيّة لمشكلة الشركات القاتلة وانتشار المنصّات التقنيّة حديثًا وفريدًا. ولعلّ الأسلوب الحديث في صياغة الأنظمة هو ما يسمّى بقياس وتحليل الأثر التشريعي ((IRA في تطوير حلول مبتكرة بين فكرتي العائد (المنفعة) والتكلفة.
من جهة، نحتاج إلى النظر إلى العائد المتوقَّع من إيجاد بيئة متّزنة شفّافة تسمح للشركات، لا سيّما الناشئة، بالنموّ والاستمرار في الإبداع والابتكار، والتقليل من ظاهرة القتل، وتقليل التدخّلات الحكوميّة. ومن جهة أخرى، مقارنة التكلفة الاقتصاديّة من هذا التدخّل بالعائد المرجوّ أيّهما أعلى، والتقليل من احتماليّة التدخّلات الاعتباطيّة من المعنيّين بمراقبة أنظمة المنافسة، آخذين بالنظر إلى عدّة اعتبارات مهمّة، منها على سبيل المثال: إلى أي مدى تستوعب “نظريّة الضرر في قوانين المنافسة” الضرر المستقبليّ، ومدى منع مثل هذه الصفقات التي تمنع نموّ الشركات الناشئة وحدها عبر تحجيم الاستحواذ على هذه الشركات مثلًا، وهل سيخرج المنتج أو الابتكار المراد حمايته إلى السوق كمنتج نهائيّ فعلًا، وتاريخ الشركة المستحوذة، والقيمة السوقيّة، وحجم التنافسيّة في هذا القطاع، والأهمّ وجود أو عدم وجود مزايد آخر يرغب بالشراء بدلًا من الشركة المستحوذة المتقدّمة كما يقرّر الدليل الإرشاديّ لهيئة المنافسة في الصفحة ١٣٩ تحت الشركات طالبة التركّز الاقتصاديّ إذا كانت إحداها متعثّرة، وإلى أيّ مدى تغيّر مفهوم التركّز الاقتصاديّ من المبيعات السنويّة turnover إلى قيمة الصفقة… إلخ.
ختاماً، لا شكّ أنّ هناك تحدّيات كبيرة، لا سيّما مع المطالبات التي نسمعها بين الحين والآخر من الحاجة إلى رفع تطلّبات الإبلاغ من ١٠٠ مليون إلى أكثر من ذلك لاعتبارات التضخّم، وتقليل التدخّل من مراقبي المنافسة. ولا ننسى التعارض الواضح بين فلسلفة قانون المنافسة وفلسفة براءة الاختراع، فالأولى تشجّع على التنافسيّة، والثانية تحدِّد من التنافسيّة إلى الاحتكار. أعترف أنّ التحوّل الاقتصاديّ إلى التقنيّ هو تحدٍّ كبير للمعنيّين في هيئة المنافسة السعوديّة، وقد بَيّنَ التطوّرَ الإيجابيّ في عملهم، خاصّة مع وضع الدليل الإرشاديّ لفحص التركّز الاقتصاديّ؛ ممّا يعمّق الشفافيّة مع حداثة هذا العلم القانونيّ وتقاطعه مع كثير من المجالات الاقتصاديّة والتقنيّة والقانونيّة، ولكنّ هذا التحوّل أمر مهمّ وضع قواعد حديثة متواكبة مع الوضع الدوليّ لإيجاد بيئة سعوديّة أكثر حيويّة تعكس رؤية ٢٠٣٠ التي تعوّل على التنوّع في الاقتصاد السعوديّ والتحوّل التقنيّ.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال