الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
(أولاً/ شرح طبيعة أنواع التعامل بين البنوك والعملاء)
لجنتنا الحبيبة.
أكتبُ لكم وخبرتي وولائي مع هذه اللجنة لمدة تزيد على الثلاثين سنة، عشتُ خلالها الأنواع المُختلفة من قضايا البنوك وعملائها، مُستشاراً سابقاً ومُحامياً مُمارساً أمامها، وهو الأمر الذي يدفعني دوماً للكتابة عن تعاملات البنوك وعقودها وقضاياها ضد العملاء، وأبرز ذلك قضايا المُطالبة بالمديونيات، سواء ضد الشركات والتجار والكفلاء، أو ضد المواطنين من المُتمَولين لأجل شراء عقار أو سيارة أو المُتاجرة بالأسهم، وما يُصاحب ذلك من قضايا المُطالبة بالتنفيذ على الكفلاء، وبيع الرهونات، وهَلُمَّ جَرَّا.
وفي المقابل تأتي قضايا العملاء ضد البنوك، وأبرزها قضايا الاختلاف على تحديد مديونية البنك الدائن، أو الاعتراض على تجاوزات البنك في بيع رهن، أو استخدام سندات لأمر مُحرَرة على بياض، أو الاعتراض على التنفيذ على التاجر وشركاته، وما يُصاحب جميع ذلك من تعارض مصالح وربما تجاوزات من البنك والعميل، إذ يُحاول البنك استيفاء كامل دينه وعمولات تجديد التسهيلات والاستفادة مما تحت يده من ضمانات: من رهونات عقارية وسندات لأمر وتحويل المُستخلصات، وما لديه من عبارات التفويض المُوقعة من العملاء عادةً عند منح التسهيلات، ومُلخصها في الغالب التفويض المُطلَق للبنوك بالتصرف، وفي مقابل ذلك يُحاول العميل حماية ماله من التعسف، وتقدير ظرف تجارته وما قد يطرأ على المدين (تاجراً أو مواطناً) من ظروف السوق وغيره، تؤثِر عليه في تأخر السداد أو طلب الجدولة أو طلب تقدير التعامل مع اختلاف سعر الفائدة (السايبور)، ومن ذلك اعتراضه على بيع العقارات محل الرهن، بحيث لا تُباع بقرار أحادي من البنك المُرتَهن، أو بسعرٍ مُتدني.
ومن القضايا المُستحدَثة، قضايا الاحتيال المالي التي يتعرض له بعض العملاء، واختلاف وجهتي النظر بين البنك والعميل، فالبنك يُحمِّل المسؤولية كاملة على العميل المُحتَال عليه، بأنه المسؤول عن أرقامه السرية، والعميل يُريد أيضاً تحميل البنك المسؤولية أو بعضها، على اعتبار أن الأموال وديعة أو أمانة لدى البنوك، وعلى اعتبار أن البنك مسؤول عن سلامة نظامه السيبراني والتقني، أو أنه مسؤول عن أي خطأ أو تقصير أدَّى إلى تمكين المُحتال من أموال العميل، من ذلك استطاعة المُحتال التحويل بالزيادة عن الحد اليومي المسموح فيه للتحويل من حساب العميل، أو عندما لا يقوم البنك بواجبه تجاه إغلاق الحساب أو تجميد الحوالات أو تتبعها بعد إبلاغ العميل للبنك بالاحتيال والطلب منه إغلاق الحساب، وهَلُمَّ جَرَّا مما يتبادله البنك والعميل من دفوع أمام القضاء المصرفي.
ومن القضايا محل الاختلاف بين البنوك وعملائها، ما ارتبط بعقود التمويل لأجل المُتاجرة بالأسهم، والتي صُمِمَتْ بأن تكون محفظة أسهم العميل هي الضامن لتمويل البنك، وأن يكون هناك هامش لا يقل عن (25%) من قيمة الأسهم ضماناً للتمويل، والاختلاف بين الطرفين في حالة عدم تسييل المحافظ عند هذه النسبة استيفاءً من البنك لدينه، وما قد يترتب أيضاً على ذلك من مديونية، فالبنك يُطالِب بسدادها كاملة على اعتبار أن العميل مسؤول عن دينه وتمويله، في حين أن العميل يُطالِب بأن يتحمل البنك أو الجهة التمويلية مسؤولية تنفيذ العقد واحترام العرف بأن يكون التسييل عند النسبة المُتفق عليها بين الطرفين، وما تَبِعَ ذلك أيضاً من اختلاف في تفسير تسييل المحفظة عند تلك النسبة، أهوَ التزامٌ على البنك؟ أم حقٌ جوازيٌ له؟
ومن قضايا العملاء الشائعة أيضاً، والتي أدّتْ إلى ازدياد عدد شكاوى وقضايا العملاء ضد البنوك، الشكاوى المُرتبطة بتمويل شراء المساكن، وما صاحب ذلك من حالات عيوب في المنازل محل الشراء، أو ما صاحبَ بعض العقود التمويلية من صياغتها على أنها أجرة مُنتهية بالتمليك، وبالتالي إنْ تخلف العميل عن سداد بعض الأقساط واتجه البنكُ المُمَوِّل للمُطالبة بمديونيته وربما لجوئه إلى القضاء لبيع السكن محل التمويل، وما ينتج عن ذلك أحياناً من اعتبار ما سدَّده العميل أجرة وليس سداد أقساط تمويلية، ممَّا قد يتولد عنه تعسف في تكييف الواقع، إذ أن حقيقة التعامل تمويل في حين أن صورته أجرة، وجميع ذلك حتماً ولَّدَ إشكاليات وتعسفات وتجاوزات، وهَلُمَّ جَرَّا.
ومن قضايا العملاء الكثيرة، ما يُصاحب اختلاف تغيّر ظروف العميل المُقترِض، من تقاعد أو فقدان عمل أو إصابة عمل أو تغيُّر عمل أو عجز كلي أو تعثر عن السداد لأي ظرف، وبالتالي سعي البنوك لتحصيل مديونياتها واستخدام ما تحت يدها من عقود وتفويضات، وربما ما تحت يدها من أرصدة وحسابات بنكية، أو تحويل راتب، الأمر الذي وَلَّدَ استعمال البنك لما تحت يده، من حجز أرصدة أو تجميدها أو الحجز على الراتب، ويُمثل هذا النوع من الشكاوى في الوقت الراهن نسبة كبيرة من شكاوى وقضايا العملاء ضد البنوك أمام البنك المركزي وأمام لجنة المنازعات المصرفية.
ومن أمثلتها الحادة: حجز البنك على كامل راتب المُتقاعد، في سبيل استيفاء البنك لدينه، بخطأ وتعسف من البنك لما تحت يده من أرصدة للعميل أو تحويل راتب، وبالمُخالفة للأنظمة والتعليمات التي تُلزِم البنوك ألا يزيد الخصم من راتب المُتقاعد عن ربع راتبه، وسمة هذا الخلاف أنه خلافٌ بين قوي وضعيف، بين بنكٍ لديه التحكم بإدارة الحساب، وبين عميل ليس له إلا راتبه المُحوَّل إلى البنك، وهو ما يعيش منه وأولاده وما يُسدِد منه تمويل البنك، مع الإشارة أيضاً هنا إلى أن نسبة كبيرة من هؤلاء العملاء هم من المُتقاعدين العسكريين، كون كثير منهم يتقاعدُ مُبكراً.
وبتأمل مرحلة صراع العميل مع البنك في الحالة السابقة، وما يمرُ به من إجراءات في سبيل إلزام البنك بتنفيذ واحترام الأنظمة واجبة التطبيق والاتباع، بأن يترك له البنك من راتبه ما يعيش منه، نجد أنها مرحلة مريرة لا تليق لا ببنوكنا ولا بأبناء الوطن، ولا باحترام الأنظمة وتطبيقها، ولا بالمصداقية البنكية محل النداء بتعزيزها!
ومن ذلك أنه قد يشتكي البنك أولاً ويجتمع به دون جدوى، ثم يلجأ للشكوى للبنك المركزي دون جدوى، ثم يلجأ إلى اللجنة المصرفية (القضاء المُختص في منازعات البنوك وعملائها)، فيُحكَم له بقرار قضائي بإلزام البنك بتطبيق الأنظمة بألّا يزيد الخصم من راتب الموظف عن النسبة المُقرَّرة نظاماً، أما عن طلب المواطن تعويضه عمّا أصابه من أضرار بسبب خطأ البنك وتجاوزه، فبتأمل قرارات اللجنة نجد أنها تُقِرُّ وتحكمُ بمبدأ التعويض له، إلا أن مبالغ التعويض – بحسب الاطلاع على عدد كبير من القضايا – مبالغ زهيدة تتراوح بتحديد تعويضه بألفي ريال أو ثلاثة أو خمسة، وهو تعويض “لا يُسمِن ولا يُغني من جوع”، فلا هو الذي جبرَ ضرراً، ولا هو الذي رَدَعَ مُعتدياً.
وتجدُرُ الإشارة هنا إلى أن التعليمات تُفرِّق بين التمويل بضمان الراتب والتمويل بضمان أصل العقار محل التمويل.
إنه بالاطلاع على إحصائيات الشكاوى المُقدَّمة أمام إدارة حماية العملاء في البنك المركزي في عام 2022م المُنصرِم، نجد أن عددها (620.000) شكوى من العملاء ضد البنوك والجهات المالية الخاضعة لإشراف البنك المركزي في المملكة، أما الدعاوى القضائية المنظورة أمام لجنة المنازعات المصرفية في العام الفائت فعددها (15.000) دعوى، جُلُّها الكبير دعاوى من العملاء ضد بنوكهم، في حين في عام 1995م (عندما كنتُ مُستشاراً أعملُ في اللجنة) لم يكن عدد القضايا يتجاوز ألـ (600) دعوى.
إن القراءة الأولى لما سبق تُفيد بازدياد عدد القضايا والشكاوى، وجُلُّها من العملاء، وهي مؤشر على وجود خلل وعدم الرضا، بل ولنقل عدم الموثوقية في المنظومة المصرفية، وهو أمر يُعارِضُ البرامج التنفيذية المُتعلِقة بـ (تعزيز الشمول المالي)، وهي إحدى برامج رؤية مملكتنا الغالية.
وسنتطرق في المقال القادم إلى الجهود المبذولة حالياً من البنك المركزي مشكوراً في تطوير أداء لجنة المنازعات المصرفية، وعن مرئياتنا وتوصياتنا بهذا الصدد، ولنتذكر به المثال الذي ذكرناه آنفاً عن حجز راتب المتقاعد، ورحلته في تصحيح ذلك، وأن التعويض لا يُذكَر، ولنُجيب على الأسئلة بشأن مدى تقدير بنوكنا لعملائها، وهل مُخالفة البنك المذكورة في المثال، من اختصاص البنك مُعالجتها؟ أم تتطلب شكوى للبنك المركزي؟! أم أنه حتى البنك المركزي لا يستطيع مُعالجتها فيضطَرُ العميلُ للتقدم بدعوى قضائية إلى اللجنة المصرفية؟! ولنترك المجال لنا جميعاً لإبداء التوصيات في سبيل المُعالَجة، لوطن يزخر بالمجد والرفاه.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال