الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يركز هذا المقال على مناقشة الفقرة الأولى من مادة 83 من نظام العمل السعودي، والتي تجيز اشتراط التاجر على العامل “عدم منافسته” بعد انتهاء العقد. هل المقصود في المنافسة هنا، منافسة العامل للتاجر بنفس النشاط، أم العمل لدى منافس آخر، أم هما معاً؟ والذي أثار ذلك هو ما صدر من المحكمة العمالية في قضايا، فسرت فيها المقصود بالمنافسة هنا هو منافسة العامل للتاجر في ذات النشاط فقط، ولا يمتد إلى عمله لدى تاجر آخر في ذات النشاط. هذا التفسير المقيّد -في قراءة المحكمة- هو ما يتغيّاه المقال بالنقاش.
بدايةً، نص الفقرة هو: “إذا كان العمل المنوط بالعامل يسمح له بمعرفة عملاء صاحب العمل، جاز لصاحب العمل – حمايةً لمصالحه المشروعة – أن يشترط على العامل ألا يقوم بعد انتهاء العقد بمنافسته، ويجب لصحة هذا الشرط أن يكون مُحرراً ومُحدداً، من حيث الزمان والمكان ونوع العمل، ويجب ألا تزيد مدته على سنتين من تاريخ انتهاء العلاقة بين الطرفين”.
نفهم من هذه الفقرة بأنها جاءت لحماية التاجر بنص واضح “حماية مصالحه المشروعة”، فتمكينه للعامل يؤدي إلى اطلاعه على معرفة العملاء، وبالتالي تتوفر لديه قاعدة بيانات عملاء جيّدة، مغرية للغير ربما، وربما يستطيع بها مغازلة تجّار آخرين. وفي نفس الوقت، ألزمت أن يكون الشرط مقيداً بزمان ومكان. مثلاً: لمدة عام واحد بعد انتهاء العقد في مدينة الرياض. وعلى أيّ حال فالقيد يجب أن لا يتجاوز عامين.
لكن، هذا الفهم شوّش عليه تفسير قضاء المحكمة العمالية بجعل هذا الشرط مقيّداً بحالة واحدة وهي أن يقيم العامل كياناً تجارياً ينافس فيه التاجر الذي عمل عنده في ذات النشاط بعد انتهاء العلاقة التعاقدية. وعليه، أجازت المحكمة انتقال العامل إلى تاجر آخر منافس، مع بطلان الشرط الذي يشترط على العامل عدم العمل لدى منافس للتاجر، لأن نظام العمل يُبطل كل شرط يخالف أحكامه. وجاء في أحد الأحكام القضائية الصادرة، أن النظام لو كان يقصد حظر العامل من العمل لدى منافس لنص عليه، وبالتالي فالنص النظامي باشترط التاجر على العامل – بعد انتهاء العقد – عدم منافسته، يتجه فقط إلى عدم منافسة التاجر، لا العمل لدى تاجر منافس للتاجر الأول.
الحقيقة أن النص مقتضب، مما أدّى إلى خلاف في تفسير المراد. لذا سنحاول تفكيك هذا الاقتضاب وتفسيره بنصوص أخرى لعلها تساعد في كشف المقصود منه، وما إذا كان الحظر يمتد إلى منع العامل من العمل لدى منافس أم لا، وما أثر ذلك على العمل التجاري، ثم نترك للقارئ اختيار الرأي المناسب في تفسير المقصود من المادة.
أولاً، لفظ العامل في النظام يشمل المواطن والمقيم، وحظر النظام منافسة العامل للتاجر، راعى فيه تمكين التاجر للعامل من العمل، الأمر الذي يؤدي إلى اطلاعه على العملاء كما في الفقرة الأولى، واطلاعه على أسرار العمل كما في الفقرة الثانية.
ثانياً، من مبادئ العقود: التوازن بين الأطراف، فهل جاءت المادة متوازنة بينهما؟ الجواب، نعم، فكما هي لحماية مصالح التاجر، فالحظر -أيضاً – ليس دائماً بل سنتين فقط من انتهاء العلاقة التعاقدية. وسنحتاج إلى هذا التوازن عند الترجيح في تفسير المادة.
ثالثاً، هل ثمة أنظمة جاءت لحماية التاجر ومنع الغير – المستفيد – من منافسته؟ نعم، نظام العلامات التجارية 1423، أجاز لمالك العلامة التجارية منع الغير (الممنوح حق استعمال العلامة) من التنازل عنها لآخرين، أو منحها بالباطن ما لم يُتفق على ذلك. واللائحة التنفيذية لنظام الامتياز التجاري، ١٤٤١هـ ، نصت في المادة الثامنة، على وجوب تضمين اتفاقية الامتياز أي قيود على مانح الامتياز وصاحب الامتياز بعدم منافسة أعمال الامتياز مدة سريان الاتفاقية أو بعد إنهائها أو انقضائها. ومشروع نظام اتفاقيات التوزيع والوكالات التجارية – وإن لم يصدر حتى الآن إلا أنه يُستأنس به – أجاز في المادة 25 على تضمين الاتفاقية شرطاً بعدم منافسة الموكل بأي صورة من صور المنافسة المباشرة أو غير المباشرة أثناء سريان اتفاقية الوكالة التجارية. كل هذه النصوص جاءت لحماية التاجر، والحد من المنافسة غير المشروعة.
نعود الآن إلى نظام العمل وذات المادة، هل راعى النظام ما تحمّله التاجر في تدريب العامل وتأهيله، وربما في استقدامه والسفر إليه واختياره من بين آخرين؟ فيما يتعلق بالتدريب والتأهيل، فنعم، فالفصل الرابع تكلم عن التدريب، فأعطاه الحق في مطالبته بالعمل بنفس الدة التي قضاها في التدريب والابتعاث. لكن ما صرفه عليه في السفر واستقدامه .. الخ، لم يتطرق إليه، وإن كان ذلك غير لازم. ومع ذلك، نجد أنّ حصر تفسير المادة على منع منافسة العامل للتاجر دون عمله لدى الغير؛ إهدار لوقت التاجر في السفر والاختيار والتدريب للأجنبي، وأيضاً لو درّب مواطناً وصبر عليه، وتحمّل أخطاءه… الخ. وبالتالي فإهدار حق التاجر في منع عامله من العمل لدى منافس؛ يعني السماح بالتخبيب بين العامل والتاجر! حيث يأتي تاجر مبتدىء إلى مطعم، أو محل، أو مصنع.. الخ، ويحاول معرفة أفضل عامل في هذا المطعم أو ذاك المصنع. ثم يراقبه حتى إذا خرج، همس في أذنه، كم راتبك؟ خمسة آلاف.. تعال عندي، ولك ستة. فيسرق التاجر المبتدئ جهد التاجر الأصلي بأيسر سبيل.
هذا الجانب لم يُثره المدعي، لتنتبه اليه الدائرة. فعاد القصور منحصر – ربما – في تحرير الدعوى، وكيف ينفخ في المسألة المؤثرة على أعمال التاجر، أو كيف يكتب لائحة يبيّن قصور التسبيب في هذا الحكم، وما يترتب على الحكم من تأثير سلبي على حق التاجر في المحافظة على بياناته التجارية (عملاء وأسرار عمل) الذي مكث فيها أعواماً ليصل إلى هذه المرحلة. وقصر المنع على منافسة العامل للتاجر دون عمله لدى تاجر آخر، يعني الإذن بإفساد العلاقة التعاقدية بين العامل والتاجر (الكفيل في حال كان العامل غير مواطن). وبالتالي تبيت وتصبح بيئة العمل التجاري على منافسة غير محمودة.
ومع إدراكنا بأن النظام قد جاء لحماية حقوق الطرفين، التاجر والعامل، حق التاجر المتحصّل من التدريب والتأهيل والصبر.. الخ، وحق العامل في العمل وأن لا يكون الشرط قيداً على رقبته طول حياته، وإنما سنتين فقط، وفي نطاق جغرافي محدد؛ فهل اشتراط التاجر على العامل، في عقد مكتوب بأن لا ينافسه ولا يعمل عند منافسه؛ يتفق مع غاية النظام -وهو حماية الحق المتحصّل المتعوب عليه، والحق الأصيل للعامل في العمل؟ هذا الذي يظهر، فالمادة 83 نصت صراحة على حق التاجر بحماية مصالحه. وبالتالي فإبطال هذا الشرط، فيه نظر. وقصر تفسير المادة ٨٣ على منافسة العامل للتاجر، دون عمله لدى منافس التاجر؛ قد يُشم منه قصور ناشىء عن عدم إدراك ما تتغياه المادة.
ثم إذا كان العامل في النظام يشمل الأجنبي والمواطن، فكيف يمكن للأجنبي أن يكون منافساً للتاجر في ذات النشاط وهو ممنوع – نظاماً – بتأسيس كيان تجاري خاص به! إذن، لم يبقَ إلا عمله لدى منافس؛ وإلا باتت هذه المادة لغواً في حق العامل الأجنبي. فالمادة بهذا التفسير تعطي للعامل حق الانتقال إلى عمل مماثل في محل مجاور، أو يتفاجىء التاجر بذهاب عملائه إلى مستوصف أسنان؛ لأن طبيب الأسنان من جنسية ما، قد انتقل إلى مستوصف آخر براتب أعلى، فسحب معه العملاء.
ختاماً، بعد هذا العرض، لعل القارئ يصل إلى تفسير عادل للنص القانوني التالي: “جاز لصاحب العمل – حمايةً لمصالحه المشروعة – أن يشترط على العامل ألا يقوم بعد انتهاء العقد بمنافسته”، هل يقتصر على منافسة التاجر فقط، أم يشمل انتقاله إلى تاجر منافس والعمل لديه؟
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال