الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يُعْدّ التحكيم نوعًا من وسائل حلِّ المنازعات الاختيارية، وهو أمرٌ معروفٌ على المستوى المدني، أمَّا في عالم التجارة، فنحن أمام وسيلةٍ شِبهِ ضرورية لحلِّ المنازعات.
فالتجارة تَتَعَارَضُ بشكلٍ كبيرٍ مع فكرة التقاضي التقليدي الذي يَتَقَيَّدُ بقيودٍ صارمةٍ من حيث إجراءات المرافعات؛ التي في جوهرها مراحل قضائية مُلزِمة، قد تكون حائلًا دون سرعة إتمام مقتضيات العدالة.
والسبب هو أنَّ التجارة تَحتَاجُ إلى سرعةٍ في اتِّخاذ القرار، وقدرةٍ على استيعاب حركة الأسعار، وهامِشَاً واسِعَاً من الوقت لتنفيذ عمليات التوريد والتوزيع؛ وغيرها من العمليات التي قد تعيق تقدُمِها المرافعات القضائية.
فالقضاء التقليدي -حتى وإن كان بِشَكلِهِ الإلكتروني- يَخضَعُ لإجراءاتِ مرافعاتٍ روتينيةٍ، ويَمنَحُ أطراف النزاع حق التقاضي على درجتَيْن؛ أي حقَّ الطعن بقرار محكمة الدرجة الأولى أمام محكمة الاستئناف بمحاكماتٍ جديدةٍ.
وبناءً عليه، فإنَّ التحكيم بشروطٍ سريعةٍ ومرنةٍ يُصبِحُ خِيارَاً شِبهَ إلزامياً للتجَّار بحُكم الواقع والعُرف التجاري؛ وهذا يجعَلُنَا نرى بندَ التحكيم بشكلٍ شبه دائمٍ في الاتفاقيات التجارية.
لكن النقطة الجوهرية في زمننا هذا؛ هي قدرة مراكز التحكيم على مُوَاكَبَةِ التطوُّرات المُتَسَارِعَة في الممارسات التجارية.
تقادم الفائدة من التحكيم .. تطوير المرافعات التحكيمية
إذا كانت الغاية من التحكيم التجاري هي توفير بيئةِ تسويةٍ واقعيةٍ تَفرِضُ العدالة بالمنطق التجاري المرن، فإنَّ تقادُمَ قواعد المرافعات التحكيمية يَجعَلُ من التحكيم أداةً تقليديةً لا تَختَلِفُ شيئاً عن القضاء في غُربَتِهَا عن الطبيعة التجارية.
فالتحكيم بالمواجهة المباشرة وبالأسلوب الورقي مثلاً يؤدِّي إلى عرقَلَةِ إجراءات التحكيم للتجارة الدولية، كما أنَّ وجود ثغراتٍ في قواعد المرافعات التحكيمية يَسمَحُ لأحد الأطراف أن يَستَخدِمَهَا في سبيل حرمان الطرف الآخر من حَقِّهِ عن طريق التمسُّك بالشكليات واستغلال أية ثغرةٍ.
ومن هنا، فإنَّ تطوير قواعد المرافعات في أيِّ مركز تحكيمٍ هو قضيةً جوهريةً لضمان نجاح المركز، وصيانة سُمعَتِهِ وجَدَارَتِهِ في تحقيق العدالة بِمَا يُرَاعِي طبيعة المنازعات التجارية كما يَتَطَلَّبُهُ الواقعُ.
المركز السعودي للتحكيم التجاري .. وتعديلات قواعد التحكيم لعام 2023
أصدَرَ المركز قواعد تحكيمٍ جديدةٍ، فيما يخصُّ كلٍّ من المحاور التالية:
أولاً: تكريس التحكيم الإلكتروني؛ وذلك عبر مجموعةٍ من القواعد التي تَنتَمِي إلى عالم التقنية، كالتبليغ والتوقيع الإلكتروني، لكن القاعدة الأهمِّ في هذا المجال كانت فَرْضَ الأسلوب الإلكتروني بالتحكيم في المنازعات التي لا تتجاوَزُ قيمتها 200 ألف ريال، وذلك عبر قاعدةٍ مُكمِّلَةٍ لإرادة الأطراف، بحيث يستطيع الأطراف الاتفاق على التحكيم غير الإلكتروني حتى وإن كانت قيمة المنازعة أقلَّ من هذا الحدِّ القِيَمِيِّ.
هذه القاعدة هي عبارةٌ عن محاولةٍ لعصرنة المرافعات، ودعم السرعة بالإجراءات حتى وإن كان ذلك على حساب التقليل من التمحيص بالمنازعة البسيطة.
تُنَاسِبُ هذه القاعدة المنازعات التي يكون فيها الخلاف بسيطاً أو شكلياً.
لذا، فإنَّ وضع حدٍّ قِيَمِيٍّ أعلى لتطبيق التحكيم الإلكتروني بشكلٍ تلقائيٍّ، لا يَتَوَافَقُ دائماً مع بساطة النزاع أو الخلاف؛ فيمكن أن نَرَى خلافاً مُعقَّداً في منازعةٍ متوسِّطة القيمة أو خلافاً شكلياً في منازعةٍ مرتفعة القيمة.
ثانياً: توسيع السلطة التقديرية لهيئة التحكيم؛ وذلك في إطار بعض المواقف الحاسِمَةِ، كتشجيع الأطراف على الحلول الودية إذا لَمَسَت الهيئة اقتراب وجهات النظر.
وكذلك، إذا وَجَدَت الهيئة أنَّ أحد الأطراف يَتَقَصَّدُ إطالة أمَدِ المنازعة بهدف الإضرار بالطرف الآخر، فلها أن تَطلُبَ الحدَّ من طول المذكرات، وأن تَفرِضَ الأسلوب الإلكتروني في إرسال المستندات وعقد الجلسات، وغيرها من الصلاحيات التقديرية التي تَدعَمُ سرعة حسم المنازعة.
لكن في الواقع، تنشأ بعض الأخطاء التحكيمية من السلطات التقديرية سواءً على مستوى الخطأ الجسيم غير المقصود أم الخطأ المقصود الذي يَتَطَلَّب إجراءً تأديبياً بِحَقِّ المُحكِّم.
ثالثاً: دعم السرعة؛ وذلك عبر فَرْضِ مجموعةٍ من القواعد الزمنية التي تُسَاهِمُ في زيادة سرعة حسم المنازعة دون المساس بعدالة القرار التحكيمي؛ كقاعدة البدء بأول جلسة تحكيمٍ خلال ثلاثين يوماً من تشكيل الهيئة.
كما يَندَرِجُ في ذات السياق، وضعَ حدٍّ أعلى لطول مدَّة المنازعة التحكيمية، وهو خمسة وسبعين يوماً كحدٍّ أقصى، وهذه أيضاً قاعدةٌ مُكَمِّلَةٌ لإرادة الأطراف، أي أنَّ الأطراف قد يتَّفِقُوا على مدَّةٍ أطول للتحكيم في المنازعات المُعَقَّدَةِ.
لكن المشكلة في مجال السرعة هو أنَّها سلاحٌ ذو حدَّيْن؛ فيمكن أن تُشكِّل عُنصُرَاً أساسياً من مكونات العدالة التجارية التي تَحتَاجُ إلى ضمان هامشٍ من الوقت لأطراف النزاع وإلاَّ سَيَكُونُ الحقُّ بلا فائدةٍ مع تغيُّر ظروف السوق، بالمقابل قد تكون السرعة مُسبِّبَاً لضياع حقِّ أحد الأطراف؛ خاصَّةً إذا لم يَنَلْ موضوع النزاع حَقَّهُ من التمحيص والمراجعة، ولم يتمَّ مَنْحُ الوقت الكافي لأطراف النزاع لإبداء طَلَبَاتِهِم، والدفع بمُستَنَدَاتِهِم، أو حتى مَنحِهِم الوقت الكافي للتفكير أكثر في مَوقِفِهِم من المنازعة.
لذا، يبدو أنَّ تحديد الوقت الكافي لحسم كلِّ منازعةٍ هو مسألةٌ مُرتَبِطَةٌ بخصوصية كلِّ منازعةٍ على حِدَة، ولا يمكن وَضعُ قيودٍ زمنيةٍ عامَّةٍ لجميع المنازعات التجارية.
رابعاً: إنشاء مجلسٍ فنِّيٍّ مستقلٍّ؛ من أهمِّ الأعمال التنظيمية التي انتَهَجهَا المركز السعودي للتحكيم التجاري بتعديل 2023 هو إنشاء مجلس القرارات الفنية، وهو يُمثِّلُ جهة حكمٍ مُستَقِلَّةٍ عن لجنة التحكيم بغرض ضمان موضوعية بعض القرارات الحسَّاسة؛ كتعيين المحكمين وعزلهم، وضمِّ الدعاوى المُتَرَابِطَة كجهة فصلٍ بين الاختصاصات، وكذلك مراجعة أحكام المحكمين.
إنَّ مجلس القرارات الفنية بمنزلة الضامن لحسن إدارة العملية التحكيمية، فهو يُشبِهُ سلطة المحكمة في تعيين المرجع المختصِّ، وغيرها من الاختصاصات القضائية في النظام القضائي التقليدي.
وعلى الرغم من انتماء مجلس القرارات الفنية لمنهجية التحكيم المرنة، فإنَّه قد يؤثر في إنجاز العدالة على وجهها المطلوب، فيما لو استخدمت سُلُطَاتِهِ بنحوٍ مغاير للغاية العدلية من تلك السُلطات، خاصَّةً وأن قراراته نهائيةٌ وملزمة للأطراف ولهيئة التحكيم.
لذا، يمكن ابتكار مجموعةٍ من الوسائل للطعن فيما يُقَرِّرُهُ مجلس القرارات الفنية أمام لجنةٍ تحكيميةٍ عليا للأمور المستعجلة، أو أمام محكمة الاستئناف المختصة.
خامساً: معالجة المسائل التفصيلية: صدر تعديل عام 2023 لقواعد المركز السعودي للتحكيم التجاري بمجموعةٍ من القواعد التفصيلية الجديدة، وبشكلٍ خاصٍّ تلك المُتَعَلِّقَةِ بالعقود ذات الأطراف المُتعَدِّدَةِ والتي يجب إدخالُ أطرَافِهَا في أية منازعةٍ عليها؛ لأنَّ نتيجة الحكم التحكيمي قد تُرخِي بآثارِهَا على جهاتٍ أخرى لم يتمَّ اختِصَامُهَا أمام هيئة التحكيم ولم يُتَاحُ لها الإبداء بدُفُوعِهَا؛ مثل هذه القواعد تصبُّ في خانة الشفافية التحكيمية تجاه الغير.
القواعد التفصيلية المقترحة
لإدارة تطوير المرافعات التحكيمية
نستطيع القول بأنَّ القواعد الجديدة التي أصدَرَهَا المركز السعودي للتحكيم التجاري تَرتَقِي بالعمل التحكيمي بِمَا يضمن التوفيق بين متناقِضَيْن؛ السرعة والمرونة التي تَتَطَلَّبُهَا العدالة التجارية من جهةٍ، والحرص والضمان الذي تَتَطَلَّبُهُ مبادئ الموضوعية والنزاهة والمسؤولية في تسوية المنازعات من جهةٍ أخرى.
لكن الخطوة الكبيرة التي خطاها المركز للأمام في قواعد 2023 تحتاج إلى بعض القواعد التفصيلية لضمان نجاح فائقٍ لها، كما يلي:
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال