الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
عندما يتخذ القانون في المملكة العربية السعودية طريقًا يواكب مكانتها الاستراتيجية؛ فإننا على أتعاب الدخول إلى عصر جديد من التشريعات، بوابته الجديدة نظام المعاملات المدنية الذي أقرّ مؤخرًا؛ إذ يُعد من أهمُّ الأنظمة في المملكة حالياً، وهو يُكَافِئُ التقنين المدني.
الماهية التشريعية للتقنين المدني (مقارنة بين المدارس القانونية)
إذا حاوَلنَا وَضعَ حدودٍ لتطبيق التقنين المدني، وجدنَاه يَشمَلُ كافَّة التعاملات، باستثناء التعاملات ذات الطبيعة الخاصَّة كالتعاملات التجارية والإدارية.
إذاً، فإنَّ نظام المعاملات المدنية هو التشريع المعياري الأساسي الذي سيُشكِّلُ القواعد النظامية العامة في المملكة.
وقد كانت المملكة في هذا الإطار بين خيارَيْن؛ أحدُهُمَا مدرسة “القانون المدني” “Civil Law” وهي التي تَعتَمِدُ على النصِّ النظري، وبين مدرسة “القانون المُجَمَّع” “Common Law” التي تَعتَمِدُ على التطبيق القضائي؛ وقد اختارَت المملكة مدرسة القانون المدني لأنَّهَا الأكثر انتِشَارَاً، والأقدَر على تجاوُزِ التناقضات التطبيقية للقانون.
ففي القانون المدني يتمُّ إسقاط القواعد النظرية الجاهِزَة على الوقائع العملية؛ الأمر الذي يَضمَنُ هامشاً من تَوقُّع التطبيق القضائي، أمَّا في القانون المُجمَّع فيتمُّ إسقاط الاجتهاد القضائي التطبيقي المستقرِّ وبعض القواعد التفصيلية المتناثرة على الوقائع العملية، وهو ما قد يُسبِّبُ غموضاً في البيئة التشريعية الأساسية، وقد يذهب بعيداً في سلطة التقدير القضائي بما يصعب تَوَقُّعِ مَدَاهُ أو تحديد مُنتَهَاهُ.
الأحكام المالية الجوهرية في القانون المدني
أهمُّ الأحكام الجوهرية التي يُنَظِّمُها التقنين المدني، هي نظريَّتَيْ العقد والالتزام، وفق التفصيل التالي:
هذه الأحكام التشريعية الجوهرية هي في الواقع قواعد قانونية عامة، سيتلوها قواعد تفصيلية لكل العقود والتصرفات ذات الطبيعة الخاصة كالعقود التجارية.
التحوُّل التشريعي في المملكة .. نظام المعاملات المدنية (التقنين المدني)
يتمُّ الانتقال في المملكة نحو نظام التقنين شَيئَاً فشَيئَاً، حيث ستَشمَل خطوات الانتقال هذا جميع الوقائع والتصرُّفات والأفعال التي تحتاج إلى تدخل تشريعي؛ هكذا حتى تُصبِحُ البيئة التنظيمية في المملكة بيئةً تشريعيةً.
وعليه، فإنَّ التغيير الجذري سيكونُ في دور القاضي؛ الذي سيقوم بتطبيق النص التشريعي على الواقعة المعروضة أمامَهُ أولاً، فإذا لم يَجِدْ نصَّاً ضمن نظام المعاملات المدنية، يكون عليه الرجوع للشريعة الإسلامية وفق ترجيحات النظام ثانياً.
أمثلة مالية عن نظام المعاملات المدنية في المملكة
من توجيهات رؤية 2030 التأسيس لمنظومةٍ تشريعيةٍ تَتَوَافَق مع منهج التطوير الاستراتيجي في المملكة.
وسنطرح في هذا المجال، الأمثلة التطبيقية التالية:
مثال عن التعويض النقدي
التعويض هو قاعدة عامَّة يمكن تفسيرُهَا بإزالة الضرر الفعليِّ أو بالتعويض المالي، كما يمكن أن تَحتَوي على تعويض الضرر القائم أو المَكسَبِ الفائِتِ المُحتَمَلِ، أو الضرر المادي أو المعنوي.
لذا، فقد نصَّ مشروع نظام المعاملات المدنية الجديد على قاعدةٍ قانونيةٍ مُفَصَّلةٍ وَاضِحَةٍ، وهي:
“يَتَحَدَّد الضرر الذي يَلتَزِمُ المسؤول بالتعويض عنه بقَدْرِ ما لَحِقَ المُتَضَرِّرِ من خسارةٍ وما فَاتَهُ من كَسْبٍ…”.
فإذا قام شخص بإعاقة شخصٍ آخرٍ من حضور اجتماعٍ لإبرام عقدٍ هامٍّ عبر حادثٍ مروريٍّ، فإنَّ هذه الإعاقة لم تَتَسَبَّب فقط بأضرارٍ فعليةٍ مثل كسر زجاج السيارة أو تخريب الإطارات بما قِيمَته 1000 ريال، لكنَّها أيضاً تسبَّبت في تَفوِيتِ مَكسَبٍ مُحقَّقٍ للشخص يتمُّ تقييمه بقيمة ما كان سيَكسَبُهُ الشخص المُتَضَرِّر من العقد فيما لو تمَّ إبرامه في وَقتِهِ بما قيمته 100 ألف ريال مثلاً.
كذلك، نصَّ مشروع النظام صراحةً على ما يلي:
“يَشمَلُ التعويض عن الفعل الضارِّ التعويضَ عن الضرر المعنوي”.
فإذا تعرض شخصٌ لعاهة أدت إلى فقدانه أحد أعضائه أو حواسه نتيجة سقوط آلية من آليات ورشة بناءٍ عليه؛ فهنا لا يَقتَصِرُ تعويض الشخص عن الضرر الفعليِّ الذي أصابَهُ فقط، بل يمتدُّ التعويض أيضاً عن ألَمِهِ النفسي لفُقدَانِهِ هذا العضو أو الحاسة، ويكون تَقدِيرُ التعويض عن الألم النفسيِّ هذا لقاضي الموضوع.
وكذلك:
“يُقدَّرُ التعويضُ بالنقد…”.
فالتعويض لا يُقدَّر بالفعل، فنظامُ التعويض ليس بنظام إعادة الحال إلى ما كانت عليه؛ بل هو نظامٌ تعويضٍ بقيمةٍ ماليةٍ مُحدَّدةٍ بالنقد، يَهدُفُ إلى إلزامِ الشخص المُخطِئ بتسديد مبلغٍ نقديٍّ للشخص المُتَضَرِّر.
بناءً عليه، فإنَّ هذه النصوص قد وَضَعَت تفاصيل القواعد والأحكام وفق ترجيحٍ واضحٍ للمَوَاقِفِ التنظيمية، وقامَت بتوحيد تفسير الحالات العملية التطبيقية بشأنِهَا.
مثال عن الظروف الطارئة
مع حلول جائحة كوفيد-19، كان واضِحَاً بأنَّ أغلب المعاملات المدنية ستُوَاجِهُ إشكاليةً في صعوبة التنفيذ أو استِحَالَتِهِ.
فالكثير من عقود البيع والإيجار وغيرها كانت محلاًّ لتعارُض مصالحٍ كبيرٍ بين أطرافِهَا؛ فالمُتَعَاقِدُ الذي كان يُرِيدُ تنفيذ العقد كان يَدفَعُ بعدم تأثير الجائحة على مَقدِرَةِ الطرف الآخر لتنفيذ التزامَاتِهِ، بينما كان يَدفَعُ المُلتَزِمُ بصعوبة تنفيذ العقد بسبب ظروف الجائحة الطارئة التي لم تكنْ بالحسبان أو حتى استحالة تنفيذ هذه الالتزامات.
وفي هذه النقطة الحاسِمَة، كان القضاء أمام خياراتٍ مُتَعَدِّدةٍ للتعامل مع المنازعات التي تَسَبَّبَتْ بها الجائحة، وكان يُخشَى من اختلافٍ جذريٍّ في تَعَامُل القضاة لحسم المنازعات على ذات العقود؛ أي أنَّ المشكلة كانت في التطبيق القضائي، وليس في القواعد الشرعية الفقهية ذاتِهَا.
فقد كان القضاء في المملكة أمام تحدٍّ تطبيقي، هو تضارُبِ الأحكام وتناقُضِهَا وفق تقدير القضاة لآثار الجائحة على التزامات أطراف العقود المدنية.
فمثلاً، في عقد الإيجار، توقَّفت بعض المهن ذات الطبيعة المدنية كالمحاماة والمحاسبة والاستشارات نتيجةً لظروف الحجر الصحي التي أوقَفَت التعاملات إلى إشعارٍ آخر.
فالمستأجر كان يَدفَعُ بدل الإيجار (10 آلاف ريال مثلاً) دون أن يَستَفِيدَ من العقار المُؤجَّر، في الوقت الذي كانت الجائحة ظَرفَاً مجهولاً تماماً لطرفي عقد الإيجار.
في مثل هذه الحالة، كان يجب التدخُّل إمَّا لفسخ العقد أو لتخفيض التزامات المستأجر رَيثَمَا تزولُ الظروف الطارئة، وحتى تعودُ مَنفَعَتُهُ بالعقار كما كانت وقتَ إبرام العقد.
وعليه، صدر عن المحكمة العليا مبدأ يتضمن معاييراً تطبيقيةً لتوحيد الآثار القانونية للجائحة على العقود، كلُّ ذلك قبل إصدار نظامٍ خاصٍّ بالمعاملات.
وبعدها، صَدَرَ النظام مُتَضَمِّنَاً تَبَنِّي قواعد القوة القاهرة التي تُعفِي من تنفيذ العقد إذا كان التنفيذ مستحيلاً، سواءً أكانت هذه الاستحالة كليةً فينقضي العقد، أم كانت جزئيةً فينقضي الالتزام الجزئي الذي أضْحَى تنفيذُه مُستَحِيلاً بفِعلِ الظروف الطارئة.
مثال عن أحكام عقود التصرفات المالية الجوهرية (العقود المُسَمَّاة)
في التقنين المدني، يقوم المشرع على التفريق بين نوعَيْن من العقود، العقود المُسَمَّاة وهي العقود التي وَرَدَت أحكامُهَا الخاصة في نصوص القانون المدني لأهميَّتِهَا ولانتشار التعامل بها، والعقود غير المُسَمَّاة وهي فئة العقود التي نَشَأت دون تحديدٍ قانونيٍّ لبُنُودِهَا والتزامَاتِهَا، وإنَّما يكون لأطرافِهَا تحديد هذه الأحكام بما يَتَلَاءَمُ مع القواعد العامة للالتزام دون تحديدٍ.
وفي المملكة، لم يكنْ يوجدُ نظامٌ خاصٌّ بالعقود المُسَمَّاة التي تحتوي على تصرفات بأموال أو بأصول مالية مادية أو معنوية، لذا، فقد صَدَرَ نظام المعاملات المدنية بجزءٍ خاصٍّ بهذه الفئة من العقود الجوهرية، والتي هي:
مثال عن القواعد التجارية المعيارية
فالقانون التجاري ينتَمِي إلى فئة القانون الخاص، فعلى الرغم من كَونِهِ قانوناً ذو طبيعةٍ خاصَّةٍ، وأنَّه بالأساس أعرافٌ تَحَوَّلَتْ إلى نصوصٍ قانونيةٍ مُلزِمَةٍ، وأنَّ الأعراف التجارية ما تزالُ مَصدَراً من مَصَادِر تنظيم التعاملات التجارية، إلاَّ أنَّ هذه التعاملات كانت بحاجةٍ إلى قواعدٍ عامةٍ واضحةٍ يتمُّ الرجوع إليها في حالة الفراغ التشريعي التجاري وانتفاء أو صعوبة إثبات العرف التجاري.
ونَجِدُ أنَّ نظام المعاملات المدنية قد صَدَرَ بتنظيمٍ صريحٍ لأحكام العقد وكيفية إبرامِهِ، وهي قواعدٌ تنطبق على العقود التجارية بما لا يُخَالِفُ النصوص التجارية الصريحة، ولا يَتَنَافَى مع الطبيعة التجارية.
كما أنَّ نظام المعاملات المدنية قد نَظَّمَ بعضَاً من العقود المُسَمَّاة وثيقة الارتباط بالبيئة التجارية؛ كعقد الشركة، والقرض، والمضاربة، والمقاولة، والوكالة، وغيرها.
وفي الختام، نقول بأنَّ المملكة تَسِيرُ على نَهجِ التطوير بما يَشمَلُ الجانب الاقتصادي والمالي، والذي يَجرِي مع مسيرةٍ مُوَازِيَةٍ من الجانب القانوني، ويبدو أنَّ نظام المعاملات المدنية هو الخطوة الكبرى في هذا السياق.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال