الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تَنقَسِمُ دول العالم إلى أقسامٍ من حيث الأنظمة التي تَحكُمُ المعاملات المالية؛ حيث نَجِدُ دول القانون الوضعي التي تُشَرِّعُ قوانيناً يَضَعُهَا الإنسان بلا خلفيةٍ دينيةٍ، بينما نَجِدُ دول القانون الشرعي التي يَحكُمُ المعاملات فيها نصوصٌ دينيةٌ، وهناك أيضاً فئة القانون المُختَلَطِ أي التي تَجعَلُ الشريعة الدينية منهجاً أساسياً للقوانين الوضعية.
وبخصوص القانون الوضعي، فقد انقسَمَت مناهِجُهُ إلى منهجَيْن أساسيَّيْن؛ هما: المنهج اللاتيني الفرنسي الذي يَحتَرِمُ النصَّ القانوني بالدرجة الأولى، ويَحصِرُ مهمَّة القاضي في إسقاط النصِّ على الواقع دون تغييرٍ أو تفسيرٍ، بينما يَنتَهِجُ المنهج الأنجلو-ساكسوني طريقاً مُعَاكِسَاً عبر احترام الأحكام القضائية التطبيقية المُستَقِرَّةِ ويرفَعُهَا إلى مكانة القانون المُلزِمِ، ذلك إلى جانب إصدار لوائحٍ تنظيميةٍ تفصيليةٍ لبعض الأمور التخصُّصية والتي تكون هي أيضاً نتيجة استقرارٍ في الاجتهاد القضائي.
وقد رَغِبَت المملكة باختيار منهجٍ تشريعيٍّ مُفَصَّلٍ، فاختارتْ المنهج اللاتيني، من حيث الاعتماد في القانون الوضعي على النصوص القانونية، والتقليل من مهمَّة القاضي وتقديره.
يهتمُّ التقنين المدني بتنظيم مواضيع غايةٍ في الأهمية وعميقةٍ من حيث الأثر على البيئة المالية بالدولة؛ وعليه فقد صَدَرَ نظام المعاملات المدنية.
وإذا أردنا تقديمَ تحليلٍ مُبسَّطٍ لأحكام النظام، سنرى ما يلي:
أولاً: نطاق التطبيق الموضوعي: يَنطَبِقُ النظام على جميع المعاملات المدنية التي لا يَحكُمُهَا نظامٌ خاصٌّ؛ مثل عقود البيع والإيجار وغيرها من العقود ذات الطبيعة المدنية، أمَّا العقود ذات الطبيعة التجارية والتداولات في أسواق المال مثلاً، فكلُّها محكومةٌ بأنظمةٍ تخصُّصيةٍ، وتبقى كذلك.
وإذا تَعَارَضَ النصُّ الخاصُّ القديم مع النصِّ العامِّ الجديدِ الوارِدِ في نظام المعاملات المدنية، فإنَّ الأفضلية بالتطبيق تكون للنصِّ الخاصِّ القديمِ (م/7).
ثانياً: نطاق السريان الزمني: يَسرِي النظام على جميع الوقائع التي يَحكُمُهَا بَعدَ حُلُولِ تاريخ نفاذِهِ (م/3)، أمَّا الوقائع السابقة لهذا التاريخ فلا يَسرِي عليها النظام وتَبقَى خَاضِعَةً للأنظمة والقواعد السابقة، وذلك عَمَلاً بقاعدة عدم رجعية القوانين؛ أي أنَّ القانون الجديد لا يَجُوزُ أن يَسرِي على وقائعٍ تمَّت في ظلِّ قانونٍ قديمٍ كان هو أساسُ الرضا لأطراف العقد أو التصرُّف أو الفعل أياً كانَ.
فمثلاً، إذا تمَّ إبرام عقد بيع عقار في عام 1443، فإنَّ قواعد الإيجاب والقبول والفسخ وغيرها التي جاء بها نظام المعاملات المدنية لا تَنطَبِقُ عليه.
ثالثاً: نطاق النفاذ الشخصي: وهو عبارةٌ عن فئات الأشخاص الخَاضِعَة لنصوص نظام المعاملات المدنية، وهم الأشخاص الطبيعيُّونَ الذين أتمُّوا سنِّ الـ 18 سنةٍ (م/18) والذين يتمتَّعُون بالأهلية الكافية لإبرام التصرُّفات وتحمُّل المسؤولية القانونية عن أخطائِهِم من جهةٍ، والأشخاص الاعتباريون المستقلون من جهةٍ أخرى (م/23) مثل الشركات والجمعيات ذات الشخصية التي تَمنَحُ الكيان الاعتباريَّ الذمَّة المالية المُستَقِلَّة، والأهلية، وحقِّ التقاضي، والمَوطِن، والجنسية (م/24).
رابعاً: نطاق الحقوق: وهو النطاق الذي يَحكُمُهُ النظام من الحقوق المُختَلِفَة، وهو يَشمَلُ كافَّة الحقوق الشخصية والعينية (م/29)؛ فالحقُّ الشخصيُّ هو حقٌّ ماليٌّ من دائنٍ على مدينٍ أي من شخصٍ على آخرٍ، أمَّا الحقُّ العينيُّ فهو حقٌّ من شخصٍ على عينٍ أي شيءٍ مثل حق الملكية على العقار.
والحقوق العينية تَنقَسِمُ إلى قسمَيْن، أحدُهُمَا عينيٌّ أصليٌّ مثل حق الانتفاع على عين عقارٍ، والآخر حقٌّ عينيٌّ تبعيٌّ أي تابعٌ لحقٍّ شخصيٍّ مثل حقِّ الدائن على العقار المرهون فهو حقٌّ على عين عقارٍ لكنَّه تابعٌ لدينٍ شخصيٍّ.
خامساً: نطاق تكوين العقد: وهو ما نُعَبِّرُ عنه بالأركان النظامية الواجِب تَوَفُّرِهَا في أيِّ عقدٍ، وهي:
(1) الرضا (م/36): أي التعبير الواعي عن الإرادة من شخصٍ ذو أهليةٍ كافيةٍ للتعاقد؛ فإذا انتَفَى الرضا بَطُلَ العقد كأن يكون الرضا مَعدُومَاً بفِعلِ الجنون أو الإكراه.
(2) المحل (م/73): أي الحق أو الشيء المتعاقَد عليه سواءً أكان حقَّاً شخصياً مثل الدين، أم عينياً مثل العقار؛ فإذا انتَفَى المحل انتهى العقد، مثل انهيار المبنى المؤجَّر الذي يُنهِي عقد إيجار الشقق السكنية.
(3) السبب (م/78): وهو سبب التعاقد الذي يجب أن يكونَ مَشروعَاً؛ أمَّا إذا كان غيرَ مشروعٍ فيَبطُلُ العقد، كأن يكون سبب عقد القرض دين قمارٍ. لكن القرينة في مصلحة العقد حتى يَثبُتُ العكس؛ أي أنَّ النظام افترَضَ أنَّ سبب التعاقد مشروعٌ حتى يَثبُتُ العكس (م/79).
سادساً: نطاق قيام المسؤولية المدينة: وهي الأركان الأساسية في قيام أية مسؤوليةٍ مدنيةٍ، والتي تَنتَفِي المسؤولية مع غيابها، وهي:
(1) الخطأ: مثل قيام شخص بهدم بناءٍ لشخصٍ آخرٍ، فهذا فعلٌ خاطئٌ يُرَتِّبُ المسؤولية المدنية لتعويض المضرور بشكلٍ مدنيٍّ مُستَقِلٍّ عن المسؤولية الجزائية للفعل.
(2) الضرر: وهو من أهمِّ أركان المسؤولية المدنية بالتعويض عن الخطأ، فالخطأ الذي لا يُسَبِّبُ ضَرَرَاً لا يمكن أن يَنتُجُ عنه تعويضٌ، كأن يُحَاوِلُ شخصٌ هَدمَ ممتلكات شخصٍ آخر لكنَّه لا ينجح، فلا يُوجَدُ مسؤوليةٌ مدنيةٌ عن الشروع بالفعل كما في المسؤولية الجزائية.
لكن هنا يمكن مساءلة الشخص الذي حَاوَلَ الهدم عن أضرارٍ أخرى تَسَبَّبَ بها؛ مثل قَطعِ الطريق أمام البناء، أو الألم النفسي الذي تَسَبَّبَ به لسُكَّان البناء.
(3) العلاقة السببية بين الخطأ والضرر: فإذا ثبت الخطأ وثَبَتَ الضرر فيجب أن يَثبُتَ بأنَّ الضرر كان بسبب الخطأ؛ فإذا ثبت قيام الشخص بالهدم (الخطأ)، وثَبت انهدام البناء (الضرر) فيجب أن يثبُت بأنَّ انهدام البناء قد كان بسبب هدم الشخص المُخطِئ، وليس بسبب حدوث زلزالٍ مُدمِّرٍ أَتَى على البناء قبل أن يُكمِلُ الشخصَ المُخطِئ عمليات الهدم.
وبالختام، فإنَّ التشريع والتقنين المدني في المملكة يُوجِبُ على المحامين والقضاة والباحثين التوسُّع في القواعد القانونية وغايَاتِهَا التشريعية بِغَرَضِ تطبيق العدل كما جاء في حرفية النصِّ، ومُحَاوَلَةِ الوصول إلى العدالة التي تَسكُنُ بين السطور في روح كلِّ نصٍّ قانونيٍّ.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال