الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
جسدت قصة مسرحية تاجر البندقية الخيالية للأديب والشاعر الإنجليزي ويليام شكسبير، والمثيرة للجدل، مظاهر اجتماعية واقتصادية مختلفة. وهي تدور باختصار حول عدد من الشخصيات التي تربطها علاقات مختلفة، أبرزها أحد تجاّر البندقية (أنتونيو)، والذي اقترض من تاجر آخر (شايلوك) مبلغًا من المال، بشرط جزائي يفرض دفع أنتونيو رطلاً من لحمه في حال تأخر السداد.
تعثر أنتونيو واجتمع الخصمان أمام القاضي الذي رأى صحة الشرط الجزائي ووثائقه. شرع شايلوك بتحضير سكينه، ولكن القاضي أحال الرأي إلى أحد المحامين الحاضرين، والذي ألهمه إصرار شايلوك على الالتزام ببنود الاتفاق، إلى أنّ ما تضمنه الشرط الجزائي هو رطل من اللحم فقط! بدون إراقة أي قطرة دم. وقف شايلوك محتاراً، فلا هو الذي قَبِل بسداد الدين وفوائده بشكل كامل، ولا هو الذي استطاع أن يحصل على رطل لحم أنتونيو بدون إراقة الدم، نظراً للعقاب الذي يتبع إراقة الدم. تكشف القصة كذلك في آخرها أن المحامي الذي أنقذ أنتونيو ما هو إلى عشيقة لصديق أنتونيو (بورشيا) تنكرت بزي رجل لإنقاذه من هذا المأزق القانوني.
ونرى في هذه القصة الخيالية أوجه تشابهٍ في تغير طبيعة العلاقة والتطلعات بين المساهمين والشركات. ففي الوقت التي تبيع به الشركات حصص أو أسهم لقاء استثمار المساهم، يأتي ذلك بالتزام على عاتق الشركة وإدارتها بتسيير أعمال الشركة بأفضل وجه ينمي دخلها وعوائد مساهميها. إلاّ أنه يلاحظ خلال الفترة الماضية تغير طبيعة تطلعات المساهمين، وعلى وجه الخصوص المساهمين المتمثلين بكيانات أو مؤسسات، من حيث أن تطلعاتهم تتعدى ربحية الشركة، لتصل إلى التسليم بإدارة الشركة وتسيير أعمالها بشكل يضمن أفضل مستوى من العناية بعدد من الشؤون غير المالية، كالوقاية والرعاية والبيئية والاجتماعية (أو ما جرت العادة على اختصاره بمفهوم الاستدامة، أو أحرف ESG)، إلى مستوى يتعدى الالتزام القانوني المطلوب.
وهي ما يمثل رطل اللحم في هذه الحالة! ولا نقصد هنا إلقاء ظل من الانتقاد على هذه التطلعات أو مشروعيتها، وإنما هدفنا هنا هو الاستعانة بمحتوى القصة، لغرض التشبيه لا أكثر، في تغير طبيعة العلاقة بين المساهم والشركة في ظاهرة احتمال تعدد أولويات التطلعات المختلفة. إذ قد تصل الشركات وإداراتها إلى مفترق طرق في محاولة للجمع بين أهمية الربحية في الشركة من جانب، مقابل تلبية التطلعات الأخرى (كالاجتماعية والبيئية) من جانب آخر، والتي بدورها قد تؤثر على مستوى الربحية أو نجاح الشركة في حال لم يتم مراعاتها في استراتيجيات الشركة الحاضرة والمستقبلية.
ومع ارتفاع مستوى الاستثمار الأجنبي في الشركات السعودية وتزايد عولمتها، وعلى وجه الخصوص من خلال مستثمرين مؤسساتيين، يتوقع أن يؤدي ذلك إلى ارتفاع مستوى وكمية هذه التطلعات الجديدة من جانب المساهمين، وبالتالي مستوى الضغط على إدارة تلك الشركات السعودية، إلى درجات تتعدى الالتزام القانوني السعودي. حيث يواجه هؤلاء المستثمرون والمساهمون الأجانب ضغوطاً من خلال أسواقهم ومحافظهم ومساهميهم، بتلبية التطلعات البيئية والاجتماعية والحوكمية، والتي بدورها تتترجم إلى استثماراتهم، سواء كانت متمثلة في حصص بشركات سعودية أم غير ذلك. فعلى سبيل المثال، يُلاحظ من دراسة نشرتها مؤسسة (As You Sow) الأمريكية والمتابعة لقضايا المساهمين والحوكمة في الشركات العامة، أن تطلعات المساهمين في هذه الجوانب من خلال القرارات والجمعيات العمومية في ارتفاع متزايد (أكثر من 20% من عام لعام) في السوق الأمريكي، إلى مستوى يتعدى الالتزام القانوني الأمريكي المطلوب في هذه الملفات. ولعلنا نستعرض في مقالات قادمة بعضاً من مشاهد تجارب الشركات الخارجية مع مساهميها بشكل أكثر تفصيلاً.
ومن جانب الشركات السعودية، قد تستفيد من رفع مستوى التدوين والإفصاح في الشؤون البيئية والاجتماعية والحوكمية، وكذلك رفع كفاءة التواصل مع المستثمرين لإدارة التطلعات والتوقعات، وترجمة ذلك في أي مجريات تخص المساهمين، كالجمعيات العمومية أو أي منصات تواصل أخرى. وعلى مستوى رفع كفاءة التواصل مع المستثمرين والمساهمين، قد تحتاج الشركات اللجوء إلى أساليب وآليات جديدة للتواصل المستمر سواء كان ذلك بشكل مباشر أم غير مباشر. ذلك ليتم إدارة تطلعات المساهم بشكل يسمح للشركة بتحقيق مستهدفاتها المالية والربحية بأفضل مستوى، مع مراعاة أي جوانب غير مالية. مخافة أن يقع أنتونيو في موقف يستدعي تكلفة تتعدى التوقعات المالية، أو رطلاً من اللحم! كذلك ليدرك المساهم والمستثمر أن مستوى التطلعات فيما يخص الشؤون غير المالية، لابد أن يأخذ في عين الاعتبار أهمية عدم إراقة دم الشركة أو ربحيتها أو أدائها، أو على الأقل، ليعي جهود الشركة في إدارة تلك الجوانب غير المالية ورعايتها لها والإفصاح عنها في حال قررت الشركة الالتزام بمستوى عالٍ من الشفافية في الإفصاح عن هذه الشؤون، إلى مستوى يتعدى الالتزام القانوني السعودي المطلوب.
ومن خلال إلقاء نظرة سريعة على السوق السعودي، نجد فيه أكثر من 200 شركة عامة بمساهمات أجنبية، تتراوح بين الـ1% إلى 40%. أي أنه بالنسبة لمستقبل السوق السعودي، فيُرجّح بارتفاع مستوى الاهتمام بهذه الاعتبارات غير المالية في استراتيجيات الشركات على المدى البعيد، مع زيادة تطلعات المستثمرين، وعلى وجه أكثر عموماً، مع زيادة مستوى الالتزام القانوني المطلوب في هذه القضايا كالوقاية البيئية والرعاية الاجتماعية ورفع مستوى الحوكمة مثلا وغيرها. ومن وجه أكثر عموماً، لعل هذه التغييرات من دورها أن تسهم في تماشي استراتيجيات الشركات السعودية المختلفة مع برامج التحول والتطوير الاقتصادي والاجتماعي والقانوني والبيئي التي تقودها الدولة، سواء تمثلت برؤية 2030 أم غيرها.
لا شكّ أن علاقة الشركة مع المستثمر وطبيعة التواصل بينهما على مستوى السوق الدولي تشهد تغييرات في طبيعتها، بأشكال قد تجد طريقها للسوق السعودي من خلال الاستثمار الأجنبي، وكذلك مع ارتفاع مستوى الالتزام القانوني المطلوب لهذه القضايا في المملكة. بل إن عددًا من المؤسسات التمويلية والمالية العالمية قد اعتمد هذه التطلعات كشروط للتمويل التجاري في جزء من خططها المالية. وغني عن القول أنه يتضح من الممارسات الدولية وجود شركات متخصصة حولت تعامل الشركة مع مساهميها وتعامل المساهمين مع شركاتهم، وآليات التخطيط والإفصاح والتدوين في الشؤون غير المالية، إلى صنعة ونشاط متخصص يتطلب وجود خبرات وأساليب جديدة، أو دور بورشيا في تاجر البندقية!
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال