الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
بعد أن أظهرت مؤشرات السلع الأساسية، ولا سيما مؤشر البترول، زيادات متتالية منذ بداية عام 2022 على إثر تعافي النشاط الإقتصادي العالمي وتصاعد وتيرة التطورات الجيوسياسية في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية خلال بقية العام، فإنها في عام 2023 قد عكست اتجاهها، باستثناء مؤشر المعادن الثمينة، حيث شكل التباطؤ الاقتصادي العالمي أحد المخاطر السلبية الرئيسية لأسواق السلع الأساسية في عام 2023. وقد جاء مؤشر البترول الأكثر تراجعاً إذ بلغ 17.8% في بداية يونيو 2023 لينخفض من مستوى 100.11% في بداية سبتمبر2022 بالمقارنة مع سنة الأساس 2018، في ظل التوقعات بأن يؤدي تباطؤ نشاط التصنيع وسط ضعف الطلب من المستهلكين والشركات، فضلاً عن ضعف الإستثمار الرأسمالي بسبب ارتفاع تكاليف الاقتراض ومخاوف الركود المستمر، إلى إنخفاض الطلب على الطاقة والمعادن. وفي حين حافظ الإقتصاد الأمريكي على بعض من زخم النمو على الرغم من العديد من الرياح المعاكسة، مستفيداً من الإنفاق الإستهلاكي كمحرك ثابت للنمو، فإن توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للولايات المتحدة تبقى محدودة عند مستوى 0.9% للعام 2023، إذ لا تزال أوجه عدم اليقين ونقاط الضعف مرتفعة بشكل غير عادي، ليس فقط بسبب التأثير المتزايد لأسعار الفائدة المرتفعة والتضخم المستمر، ولكن أيضًا بسبب اضطراب القطاع المصرفي الأمريكي الذي بدأ في مارس. وأيضاُ من المتوقع أن ينمو اقتصاد منطقة اليورو بنسبة أقل عند مستوى 0.5% في عام 2023، بعد أن شهد بعض التحسن مقارنة بتوقعات الربع الأول للعام الحالي، حيث يرجع ذلك التحسن إلى الانخفاض في أسعار الطاقة وارتفاع أمن الطاقة بشكل كبير. وعلى هذا الأساس فمن المتوقع أن يتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي العالمي بشكل ملحوظ إلى 2.5%في عام 2023، قبل أن يرتفع إلى 3.0% في عام 2024، (الرسم البياني 1).
الرسم البياني رقم 1: مؤشرات السلع الأساسية
وعلى ضوء هذه الخلفية للإقتصاد العالمي، جاءت قرارات مجموعة الدول المنتجة للنفط في أوبك+ لتعكس هذه الحالة فيما يخص اتفاقها بخفض مستويات الإنتاج. وكذلك هو الحال بالنسبة للمملكة العربية السعودية، فبعد قيامها بالتدرج في إلغاء تخفيضات إنتاج النفط، تماشياً مع اتفاقية أوبك +خلال العاميين الماضيين 2021 و2022 ليرتفع إنتاج المملكة من النفط إلى 11.00 مليون برميل في اليوم، عادت المملكة مرة أخرى لخفض إنتاجها في عام 2023، وذلك ضمن محاولتها ضمن مجموعة أوبك+ لتثبيت أسعار النفط، حيث انخفض الإنتاج إلى 10.45 مليون برميل في اليوم في مارس 2023، في حين بلغت صادرات المملكة من النفط الخام 7.46 مليون برميل في اليوم في نفس الفترة. وبعد أن إرتفع سعر النفط الخام بحوالي 10 دولارات للبرميل إلى 88.00 دولاراً للبرميل في منتصف أبريل بعد قرار التخفيضات المفاجئة للإنتاج التي أعلنت عنها أوبك+، فقد فشلت الأسعار في الحفاظ على هذه المكاسب، حيث عاد التشاؤم بشأن النمو الإقتصادي العالمي وانخفض سعر تداول النفط إلى 76 دولارًا للبرميل. كما أدت المخاوف بشأن تباطؤ الإقتصاد العالمي وتوقعات تدني الطلب على النفط إلى تراجع ثقة السوق النفطي، مما عكس أيضاَ المكاسب التي أعقبت الإعلان المفاجئ من قبل بعض دول أوبك+ عن خفض الإنتاج من بداية مايو. وظلت الأسعار تتعرض لضغوط منخفضة بسبب ضعف النشاط الصناعي وارتفاع أسعار الفائدة، حيث أدت هذه التطورات مجتمعة إلى زيادة احتمالات الركود والمخاوف من حدوث تحول هبوطي في نمو الطلب على النفط، (الرسم البياني 2).
الرسم البياني رقم 2: إنتاج وصادرات النفط في المملكة وأسعار خام برنت
وبعد أن انخفضت أسعار خام برنت إلى ما دون 70 دولار للبرميل، تراوحت خلال أبريل ومايو عند مستويات 75- 80 دولار للبرميل، إلا أنه يقدر أن يبلغ متوسط سعر النفط خلال العام 2023 بنحو 77 دولار للبرميل. وعند متوسط إنتاج المملكة الذي يقدر بنحو 10.35 مليون برميل يومياً للعام 2023، فسوف يصل سعر التعادل المالي، وهو الحد الأدنى لسعر النفط الذي يٌمكن الحكومة من تغطية جميع أوجه الإنفاق في ميزانية 2023، إلى 81 دولارًا للبرميل. غير أن هذا السعر أعلى بمقدار 4 دولارات من المتوسط السنوي المتوقع لسعر برنت عند 77 دولار للبرميل، مما يشير إلى أن ميزانية المملكة سوف تحقق عجزًا ماليًا في عام 2023، وذلك بعد أن حققت فائضاَ كبيراَ بلغ 104 مليار ريال في عام 2022. وهذا لا يعني بالضرورة بأن المملكة العربية السعودية عند نقطة التعادل المالي هذه سوف تقوم بخفض الإنتاج بغرض دعم الأسعار، خصوصاً بأن هذا الفارق لا يمثل تحدياً لإستقرار السياسة المالية. كما يمكن تمويل هذا العجز المالي من خلال إصدار السندات سواءً كانت المحلية أو الدولية وكذلك السحب من الإحتياطي الرسمي. ويعد سعر التعادل المالي من المكونات المتكررة في تنبؤات الإستقرار المالي وحتى السياسي، والتوقعات بأسعار النفط العالمية، حيث يمكن أن يوفر سعر التعادل المالي رؤية ذات قيمة في الأمور الجيوسياسية وديناميكيات السوق النفطي، كما تساعد معرفته على تحسين السياسات المالية وكذلك القرارات المتعلقة بإنتاج وتصدير النفط. وفي حين جاء سعر التعادل المالي لدولة قطر عند 44.8 دولار للبرميل وهو الأدنى، إذ أنها واحدة من أكثر الدول مرونة من الناحية المالية في المنطقة، ومن ثم الإمارات العربية المتحدة عند 55.6 دولار للبرميل، مما يعني تحقيق فواض مالية للدولتين، وصل سعر التعادل المالي في البحرين إلى 126.2 دولار للبرميل، وبالتالي تحقيق عجز في ميزانها المالي في عام 2023، (الرسم البياني 3).
الرسم البياني رقم 3: سعر التعادل المالي لسعر النفط
بعد تسجيل فائض قدره 104 مليار ريال سعودي (2.5% من الناتج المحلي الإجمالي) في عام 2022 نتيجة ارتفاع عائدات النفط، سجل الميزان المالي للمملكة العربية السعودية عجزًا طفيفًا بلغ 2.9 مليار ريال سعودي في الربع الأول من عام 2023، حيث بلغت النفقات 284 مليار ريال سعودي، بزيادة قدرها 29% على أساس سنوي، في حين بلغت إجمالي الإيرادات 280.9 مليار ريال، بزيادة محدودة عند 1%. وقد بلغت الإيرادات النفطية 178.6 مليار ريال سعودي في الربع الأول 2023، حيث تراجعت بنسبة 3% عن نفس الربع من عام 2022. وبالنسبة للإيرادات غير النفطية، فقد شَكَلت الضرائب على السلع والخدمات 62 بالمائة من الإيرادات غير النفطية، لترتفع بنسبة 4% على أساس سنوي، مما يعكس نموًا قوياً في الطلب على السلع والخدمات. كما ارتفعت ضرائب الدخل والأرباح والمكاسب الرأسمالية بنسبة 75%، حيث ساهمت هذه المكاسب وغيرها من الضرائب والعوائد المتحققة من استثمارات البنك المركزي وصندوق الإستثمارات العامة في زيادة الإيرادات غير النفطية بنسبة 9% خلال الربع الأول على أساس سنوي، والذي لم يكن فقط كافياً لتعويض الإنخفاض بنسبة 3% في عائدات النفط، بل وزيادة الإيرادات الإجمالية بنسبة 1%. أما بخصوص بنود الإنفاق، فبعد أن تراجعت النفقات الرأسمالية للحكومة مع قيام صندوق الإستثمارات العامة بتحمل عبئاً كبيراً من إستثمارات رؤية 2030 خلال السنوات الماضية، عادت النفقات الرأسمالية لتكون الأكثر ارتفاعا، تليها السلع والخدمات بنسبة 75% على أساس سنوي، و70% على أساس سنوي، على التوالي. وكذلك الحال بالنسبة للمنافع الإجتماعية ومصاريف التمويل فقد حققا ارتفاعا كبيراً بنسبة 52%، و50% على أساس سنوي، على التوالي. كما أنه كان من اللافت أيضاً زيادة تعويضات الموظفين بنسبة 7%، حيث شكلت حوالي 47% من إجمالي الإنفاق. وعلى الرغم من الزيادة الشاملة في الإنفاق، فهي لا تشكل تحدياُ للإستدامة المالية، إذ لا تزال هناك القدرة على إنشاء مساحة للإنفاق الحكومي الإضافي، حيث إن نسبة العجز المالي السنوي المتوقعة كحصة من الناتج المحلي غير النفطي الأسمي تقدر بحوالي 6%، على أساس الفارق بنحو 4 دولارات بين سعر التعادل المالي ومتوسط سعر النفط المتوقع للعام الحالي، ولكن الخطر الرئيسي يكمن في الانخفاض المطول في أسعار النفط عند 50 دولار على مدى سنوات عديدة، وهو أمر غير محتمل في المد المتوسط.
الرسم البياني رقم 4: أداء الميزانية للربع الأول 2023
لقد شهدت فترة إرتفاع أسعار النفط ما بين عام 2003 إلى عام 2008 وتجاوزها سعر التعادل المالي إقتراب المملكة من إدخار نصف عائدات كل برميل نفط يتم تصيره، ولم ينخفض إلا قليلاً في عامي 2007 و2008 على إثر الأزمة المالية الدولية، ثم عاودت المملكة تلك الحالة من 2010 إلى 2014، التي على إثرها بلغت صافي الإحتياطيات الأجنبية ذروتها في أغسطس 2014 بنحو 2.8 تريليون ريال. إلا أن إنهيار أسعار النفط وتذبذبها الحاد خلال الفترة 2015 و2021، ساهمت في بقائها متدنية عن سعر التعادل المالي والذي إضافة إلى ذلك تم رفعه إلى ما يفوق 75 دولار للبرميل، مما ترتب عليه عجوزات مالية خلال نفس الفترة. وبهدف عزل الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي من صدمات أسعار النفط، أدخلت المملكة برنامج التوازن المالي في عام 2016، والذي يهدف إلى اعتماد سياسة مالية معاكسة للتقلبات الدورية وتجنب مسايرة التقلبات الدورية المرتبطة بدورات الازدهار والركود السابقة المدفوعة بالنفط، ومن ثم تم تعديله بعد ذلك ليكون برنامجًا للاستدامة المالية. ولتمويل تلك العجوزات المالية خلال الفترة من 2016- 2021، لجأت الحكومة إلى السحب من الاحتياطي الرسمي الذي استمر في الانخفاض إلى 1.6 تريليون ريال في مارس 2023. وقد أدت هذه السحوبات المتتالية إلى انخفاض نسبة الأصول إلى الناتج المحلي الإجمالي من 133% في عام 2014 إلى 59% في عام 2022، إلا أن وتيرة عمليات السحب تباطأت مع توسع الحكومة في إصدار السندات المحلية والدولية لتمويل العجوزات، وقيامها بتنويع الإيرادات، والتي من أهمها بتطبيق ضريبة القيمة المضافة ابتداءً من 2018 وبنسبة 5%، ومن ثم زيادتها إلى 15% ابتداء من يوليو 2020، وما نتج عنها من التحسن الكبير في الإيرادات غير النفطية، التي بلغت نحو 36% من إجمالي الإيرادات.
الرسم البياني رقم 5: صافي الأصول الأجنبية ونسبتها إلى الناتج المحلي الإجمالي
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال