الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
نَجِدُ القواعد التجارية أشبهَ بمجموعةِ استثناءاتٍ عرفيةٍ تجاريةٍ عن القواعد العامَّة؛ وأبسَطُ مثالٍ عن ذلك اشتراط الكتابة في العقود، حيث تَجِبُ الكتابة لإثبات العقد المدني ذو القيمة المُعتَبَرَةِ، بينما يُستَثنَى العقد التجاري من هذه القاعدة فيمكن إثباتُهُ بالشهود مهما كانت قِيمَتُهُ.
لكن مهما بَلَغَت القواعد التجارية من التميُّز والاستثناء، فهي تَبقَى بالنهاية قواعداً منتميةً للقانون الخاصِّ، ولهذا أثرٌ جوهريٌّ في حالة الفراغ التشريعي.
أي أنَّ القاضي عندما يَحكُمُ في مسألةٍ تجاريةٍ يَرجِعُ أولاً للقانون التجاري، فإذا لم يَجِدْ أيَّ نصٍّ قانونيٍّ، فإنَّ عليه الرجوع إلى القانون المدني.
وفي المملكة اليوم، صَدَرَ نظام المعاملات المدنية الذي يُنظِّمُ المعاملات بقواعدٍ عامةٍ؛ أي النظام الذي يَعتَمِدُ على وصف الوقائع المُرَادِ تَنظِيمِهَا.
هذه القواعد أصبحت تُشَكِّلُ البيئة التشريعية الأساسية في المملكة؛ تلك البيئة المنظِّمة لجميع المعاملات ومنها المعاملات التجارية فيما لم يردْ نصٌّ تجاريٌّ خاصٌّ.
بناءً عليه، نَجِدُ أهم المسائل التي تُحدِّد نطاق التطبيق العام لنظام المعاملات المدنية، والتي تَتَقَاطَعُ مع الوقائع التجارية، كما يلي:
أولاً: بالنسبة للمسؤولية، فإنَّ مسؤولية التاجر سَيَحكُمُهاَ نظام المعاملات المدنية من حيث القواعد الأساسية التي تَشمَلُ اكتمال أركان المسؤولية (الخطأ-الضرر-العلاقة السببية).
فإذا أراد الشخص إقامة المسؤولية المدنية على التاجر بسبب قيامِهِ بممارسات منافسةٍ غير مشروعةٍ مثل الإغراق أو تحديد الأسعار أو أية ممارساتٍ تَضُرُّ بالمستهلِكِين أو بالمنافسين، فيجب على المضرور إثبات أركان المسؤولية المدنية كما وَرَدَت قواعِدُهَا العامة في نظام المعاملات المدنية على أساس أنَّ: “كلُّ خطأ سبَّب ضرراً للغير يُلزِمُ من ارتكبه بالتعويض” (مادة 120 نظام المعاملات المدنية).
لكن هذا الانطباق لا يخلُّ بتطبيق النصوص النظامية الخاصَّة (مادة 1-2 نظام المعاملات المدنية)؛ مثل الأحكام التي تَخُصُّ تفاصيل إقامة مسؤولية التاجر عن الغش، أو المنافسة غير المشروعة، أو الإخلال بالاتفاقيات التجارية، أو غيرها.
فإذا ترتَّب دينٌ على الشركة التجارية دينٌ، فهو يَخضَعُ -من حيث المبدأ- لأحكام الالتزام في نظام المعاملات المدنية، لكنَّه لا يَخضَعُ لهذه الأحكام العامَّة في حال وجود أحكامٍ تجاريةٍ خاصَّةٍ.
فعلى سبيل المثال، لا يَتَرَتَّبُ على المساهمة في شركة المساهمَة اكتساب صفة التاجر، فلا يضمن المساهم ديون الشركة إلاَّ في إطار قيمة أسمه فقط (مادة 58 نظام الشركات). ففي هذه النقطة المحدَّدة لا يتمُّ تطبيق القاعدة العامة التي تَقُولُ في نظام المعاملات المدنية بأنَّ أموال المدين جميعُهَا ضامنةٌ للوفاء بديونِهِ (مادة 181-1 نظام المعاملات المدنية).
ثانياً: بالنسبة للعقود، يجب تطبيق أحكام نظام المعاملات المدنية على العقود المسمَّاة وغير المسمَّاة في النظام /اختصاصٌ عامٌّ/، باستثناء العقود ذات الطبيعة الخاصَّة التي تُنَظِّمُهَا أنظمةٌ أخرى /اختصاصٌ خاصٌّ/ (مادة 30 نظام المعاملات المدنية).
بناءً عليه، فإنَّ العقد التجاري مثل الوكالة التجارية والاستيراد والتصدير، والتوريد، وغيرها العقود؛ سَيَحكُمُهَا نظام المعاملات المدنية من حيث أحكامِهَا الأساسية، التي تشمل الإيجاب والقبول وغيرها من القواعد العامَّة، لكن سَيَحكُمُهَا النظام التجاري ونظام الشركات فيما يخصُّ الالتزامات التفصيلية المذكورة صراحة في هذه الأنظمة الخاصَّة.
أكثر من ذلك، فقد نصَّ نظام المعاملات المدنية على تنظيمٍ خاصٍّ بعقودٍ هامَّةٍ في البيئة التجارية، مثل عقد المضارَبة؛ الذي يُسَلِّمُ بمُوجِبِهِ ربُّ المال مَالَهُ لِمَن يَعمَلُ بالمال بمقابل جزءٍ شائعٍ من الربح (550 نظام المعاملات المدنية).
ففي هذا العقد، نصَّ نظام المعاملات المدنية على أحكامٍ ملزمةٍ لا يجوز الاتفاق على خلافِهَا؛ مثل وقوع الخسارة في جانب ربِّ المال وحدِهِ وليس المضارِب، ويَبطُلُ أيُّ بندٍ اتفاقيٍّ مُخَالِفٍ (557 نظام المعاملات المدنية)، كما أنَّ تحديد مبلغٍ مضمونٍ من المال كربحٍ لربِّ المال أو المضارِب يُعتَبَرُ شَرطَاً باطِلاً في عقد المضاربة (559-1 نظام المعاملات المدنية).
بناءً عليه، فإنَّ نظام المعاملات المدنية قد تَدَخَّلَ بقواعدٍ صريحةٍ ومُلزِمَةٍ في العقود التي تَنتَمِي إلى البيئة التجارية، والتي تَسرِي فيما لم يردْ فيه نصٌّ خاصٌّ في النظام التجاري.
ثالثاً: بالنسبة للشركات: من أهمِّ نقاط التقاطُع بين الأنظمة التجارية -أي النظام التجاري ونظام الشركات- وبين نظام المعاملات المدنية؛ ستكون هي الشركات.
فالشركة لا يُشتَرَطُ أن تكونَ ذات طبيعةٍ تجاريةٍ، فقد تكون شركةً مهنيةً ذات نشاطٍ مدنيٍّ؛ مثل المحاماة أو الطب أو المحاسبة.
وقد وَرَدَت أحكامٌ خاصَّةٌ بالشركات في نظام المعاملات المدنية، على أساس أنها أحكام الشراكة بشكلٍ عامٍّ ومن حيث المبادئ.
وقد نصَّ نظام المعاملات المدنية على أنَّ أحكام الشركات الوارِدَة فيه تُطَبَّقُ على جميع الشركات باستثناء الشركات الواردة أحكامُهَا في نصوصٍ نظاميةٍ خاصَّةٍ (مادة 529-2 نظام المعاملات المدنية)، مثل تلك الشركات المذكورة في نظام الشركات كالتضامن، والمسؤولية المحدودة، والمساهمَة، وغيرها.
لكن الأحكام الوارِدَة في نظام الشركات لم تُنَظِّمْ المبادئ الأساسية، بل تفاصيل تأسيس وإدارة وتشغيل ومالية الشركات، فماذا عن عقد الشركة مثلاً؟
جاء في تعاريف نظام الشركات لعام 2022 بأنَّ الشركة هي كيانٌ يؤسَّسُ بناءً على عقد تأسيسٍ أو نظام أساسٍ (مادة 2 نظام الشركات)، أمَّا في نظام المعاملات المدنية، فقد جاء تعريف الشركة بحدِّ ذاتِهَا بأنَّها: “عقدٌ يُسهِمُ بمُقتَضَاهِ شريكَانِ أو أكثر بتقديمِ حِصَّةٍ من مالٍ أو عملٍ أو منهما في مشروعٍ لاقتسامِ ما ينشأُ عنه من ربحٍ أو خسارةٍ” (529-1 نظام المعاملات المدنية).
بالتالي، ماذا يَنتُجُ عن كَونِ الشركة عقدٌ؟
يَنتُجُ عن ذلك أنَّ للشركاء الدفع ببطلان الشركة لبطلان عقدِهَا استناداً على أسباب بطلان العقود الوارِدَة في نظام المعاملات المدنية؛ الذي أصبَحَ يُمثِّلُ القواعد العامة للتعاملات في المملكة.
فعلى سبيل المثال، بإمكانِ الشريك أن يَدفَعَ بالغلط؛ أي وجودَ عيبٍ في إرادَتِهِ يَتَمَثَّلُ في وقوعِهِ بغلطٍ جوهريٍّ لولاهُ لم يَرْضَ بإبرام عقد الشركة (مادة 57 نظام المعاملات المدنية)، وقد يكون الغلط المُبطِلُ للعقد في شخص الطرف المُتَعَاقِد معه.
فيمكن أن يَظُنَّ الشريك بأنَّه يَتَعَاقَدُ على تأسيس شركةٍ مع شخصٍ من عائلةٍ مُحدَّدةٍ شهيرةٍ بمشاريعِ الأعمالِ، لكنَّه -بعد إبرام العقد- يكتَشِفُ بأنَّ هذا الشخص المُتَعَاقِدِ معه قامَ بإبرام العقد لحساب شخصٍ آخرٍ مُتَخَفِّي خَلفَ العائلة المعروفة، حيث يُبرِمُ العقود بأسمائِهِمْ لكن لحسابِهِ.
ففي هذه الحالة، يَستطيعُ الشريك في شركةٍ تجاريةٍ الاستناد على نص المادة (57) من نظام المعاملات المدنية تأسيساً لطلب إبطال عقد الشركة.
وفي الختام،
يَجِبُ القولُ بأنَّ صدور نظام المعاملات المدنية في المملكة يُرخِي بآثارٍ جوهريةٍ على النشاطات التجارية والمشاريع الاقتصادية والشركات؛ الأمر الذي يَتَطَلَّبُ ما يلي:
أولاً: إعادة النظر بالنصوص التجارية وأنظمة الشركات بما يَتَنَاغَم مع القواعد المدنية العامة، ثم تحديد القواعد التجارية الخاصَّة التي تُشَكِّلُ أحكاماً استثنائيةً للقواعد العامة؛ لأنَّ صياغة الاستثناء تكون بعد تحديد المبادئ العامة.
ثانياً: إخضاع كافَّة المختصِّين في الشؤون القانونية للمشاريع التجارية والشركات لدورةٍ تدريبيةٍ تَتَنَاوَلُ أثر صدور نظام المعاملات المدنية على تنظيم الشؤون القانونية التجارية ضمن نطاق عملهم في المشروع أو الشركة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال