الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
دور الصناعة الوطنية المأمول في سلاسل الإمداد العالمية
في المقال السابق تحدثتا عن المنهجية التي بنيت عليها الاستراتيجية الوطنية للصناعة، واقترحنا (1 ) أهمية تقسيم الاستراتيجية لقسمين أحدهما يعنى بتجاوز التحديات الحالية والتغلب الفوري عليها ، والثاني يعني بتطوير الصناعة والمواءمة مع رؤية المملكة 2030 ، و(2 ) تحديد المراحل الزمنية الثلاث لتنفيذ الاستراتيجية، و(3 ) توسيع قاعدة مشاركة القطاعين العام والخاص في حوارات صياغة الاستراتيجية قبل إصدارها القادم ، وأخيراً (4 ) استخدام أكثر من منهجية تخطيط استراتيجي حسب متطلبات كل مرحلة أو قطاع . أحد الخبراء من ذوي الباع الطويل في الصناعة البتروكيميائية تواصل معي – مشكوراً – بعد قراءته المقال السابق ، وأضاف أمراً خامساً ، أراه ذا أهمية بالغة ويقترح فيه (5 ) تجزئة الاستراتيجية العامة إلى خطط فرعية لكل قطاع صناعي تبنى عليها سياسات صناعية مخصصة له .
بالعودة لأهداف الاستراتيجية الوطنية للصناعة نجدها تتمحور حول تركيز المملكة العربية السعودية على 118 مجموعة صناعية مختارة من 12 قطاعاً صناعياً أولياً تملك المملكة فيها فرصاً سانحة للمنافسة على المستويين الإقليمي والعالمي ولتحقيق ذلك ، ارتكزت الاستراتيجية الوطنية على ثلاثة أهداف أساسية :
1– بناء اقتصاد صناعي وطني مرن قادر على التكيف مع المتغيرات.
2– تكوين مركز إقليمي صناعي متكامل لتلبية الطلب.
3– تحقيق ريادة عالمية في صناعة مجموعة من السلع الصناعية المختارة.
سنبدأ بالحديث عن الهدف الأول الذ ي بنُي كما جاء في النسخة المصدرة من الاستراتيجية الوطنية على محورين هما : زيادة التصنيع المحلي و تقليل مخاطر اضطرابات سلاسل الإمداد من خلال الدخول في اتفاقيات استراتيجية تضمن الوصول للسلع المهمة. أولاً أن تزامن صياغة هذا الهدف أثناء اعداد الاستراتيجية مع آثار الوباء الفيروس التاجي ( كورونا ) والتداعيات التي ألقت بثقلها على سلاسل الإمداد العالمية وكادت تكبل بعض مفاصلها الهامة بعد انقشاع غمة الوباء مباشرة قد أثر على صياغته بهذا الشكل . وصياغة هذا الهدف بهذا الأسلوب في هذه الظروف أمر طبيعي ، فهو يظهر تحول المُخَطِط من النظر إلى هذا الهدف كتكتيك اصلاحي لحظي نتيجة لظروف ومخاطر آنية إلى استراتيجية حماية طويلة الأجل. وهذا التحول في التخطيط ليس ماحدث في صياغة الاستراتيجية السعودية فقط ولكن في معظم الدول الصناعية حصل إعادة لصياغة خططها بعد أن قرع الوباء جرس إنذار بيَّنَ الخلل الكامن في سلاسل إمداداتها. فمثلا وتحت الآثار التي تركها الوباء على الصناعة الأمريكية أصدر البيت الأبيض في يوينو 2021 تقرير المائة يوم الذي وضع خطة سريعة لبناء سلاسل إمداد مرنة لتعزز تفوق ونمو الصناعة الأمريكية في قطاعات الصناعات الطبية والأدوية ، والمواد الحرجة ، وأشباه الموصلات ، وبطاريات تخزين الطاقة ذات السعة الكبيرة بعد ملاحظة وجود فجوات ومخاطر في حلقاتها كشفتها ظروف الوباء الاستثنائية قد تخلق تحديات ومخاطر على الصناعة الأمريكية على المدى القصير وتعطي المنافسين فرصة للتفوق عليها.
يقول فريك فيرميولن في كتابه ( كسر العادات السيئة ) : ” هناك ممارسات مختلفة يمكنك بناؤها في مؤسستك لجعلها تعمل اعتماداً على ظروفك واستراتيجيتك مثل تغيير طرق العمل المعتادة وتعريض الناس لطرق بديلة للقيام بالأشياء ، وطرح السؤال صراحة “لماذا نفعل ذلك بهذه الطريقة؟“.
والآن وبعيداً عن التخطيط تحت أثر الوباء ومابعد الوباء ، فأقترح أن تتضمن النسخة القادمة من الاستراتيجية إضافة هامة للهدف الاستراتيجي الأول بحيث تعاد صياغته على النحو التالي : ” بناء اقتصاد صناعي وطني مرن قادر على التكيف مع المتغيرات يتميز فيه التصنيع المحلي بالمرونة التامة والقدرة الإنتاجية لتلبية الاحتياجات المحلية في كافة الظروف ، ويشكل فيه ومن خلال تصنيع بعض المنتجات المختارة حِلَقَ وصل أصلية وأساسية في سلسلة القيمة العالمية ( Global Value Chain ) لضمان رفاهية المواطنين ووضع الصناعة الوطنية على الخارطة العالمية “. الهدف من هذا التعديل المقترح ليس هو فقط درء المفاسد بتقليل مخاطر سلاسل الإمداد كما جاء في النسخة الأولى من الاستراتيجية ، بل وجلب المصالح بتسنم دور عالمي في سلاسل الإمداد لا يقل عن دور البترول في سلاسل إمداد الطاقة العالمية.
اليابان على سبيل المثال تمثل محور ارتكاز حساس في سلال إمداد المواد الحرجة اللازمة للصناعات الالكترونية عالمياً لتبنيها سياسة صناعية تقوم علي توفير التمويل اللازم ، والبحث والتطوير ، وإضافة قيمة صناعية لها من خلال الصناعات التحويلية ثم إعادة تصديرها رغم أن اليابان تعاني من فاقة في مصادر المواد الحرجة . وفي تايوان – وهي دولة صغيرة نسبياً – على الجانب الأخر نرى شركة (TSMC ) لصناعة المعالجات الرقمية الشركة الأولي تقدما في العالم في مجالها ، وهي التي تصنع المعالجات لصالح شركات أميركية مثل آبل وكوالكوم و تسيطر على أكثر من ( 50% ) من سوق أشباه الموصلات في العالم أصبحت عنق الزجاجة ونقطة الاختناق العالمية في هذه الصناعة.
من المؤكد وجود فرص كبيرة ناتجة من فجوات مزمنة و انقطاعات طارئة في سلاسل القيمة العالمية نتيجة تفشي الوباء أو الحرب الروسية الأوكرانية سوف تعطينا المجال لإعادة التفكير في صياغة الهدف الأول من الاستراتيجية الوطنية للصناعة في الإصدار القادم كما هو مقترح أعلاه. ومن ثم الخروج بخطة وأهداف طموحة وفعالة قابلة للتنفيذ السريع تعطي صناعتنا تموضعاً استراتيجياً عظمياً ليشكل حلقة عالمية أصيلة وفعالة في شبكة سلاسل الإمداد العالمية مستفيدين من موارد المملكة الطبيعية الهائلة وموقعها الجغرافي الحساس، وبنيتها الأساسية المتينة ، وعلاقاتها وثقلها السياسي والاقتصادي الدولي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال