الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
كان حلماً وأصبح حقيقةً!
سألني أحد طلابي: دكتور ما الفائدة من دراسة مادة العقود المدنية إن كنا لا نطبقها في المحاكم؟
خلال السنوات الماضية تشرفت بتدريس مواد: العقود المدنية، مصادر الالتزام، و أحكام الالتزام في عدد من الجامعات السعودية، وكان مصدر تدريس تلك المواد كتباً تعتمد على: القانون المصري، أو الأردني، أو المغربي، أو وثيقة الكويت للنظام (القانون) المدني الموحد لدول مجلس التعاون.
وكعادتي في اتباع الأسلوب التفاعلي في إلقاء المحاضرات التي تعتمد على النقاش، وتطوير التفكير النقدي، وتجويد العملية التعليمية للوصول إلى المستهدفات المطلوبة، وإعطاء الطالب مساحة للسؤال والاستفسار بدلاً من أسلوب التلقين وترك الطالب في صراع مع استفسارات وتساؤلات لا تشبع تلك الكتب عطشه المعرفي. كنت دائماً ما أبدأ بسؤال الطلاب: هل يوجد لدينا نظام (قانون) مدني في المملكة؟
الإجابات تتفاوت بين مثبت، و نافي، و متأرجح بينهما. والصدمة تكون لهم عندما يكتشفون من خلال النقاش أنه لايوجد لدينا هذا النوع من الأنظمة، على الرغم أنهم درسوا نظرية القانون والتي كانت تؤكد بأن أبو القوانين ومصدرها هو القانون المدني.
وبعدها يبدأ السرد التاريخي والنقاش في أسباب ذلك، وما هي نتائج ذلك من الناحية التشريعية، وينتهي ذلك النقاش الجميل بسؤال الطلاب: دكتور ما الفائدة من دراسة العقود المدنية أو أحكام الالتزام أو مصادر الالتزام إن كانت تعتمد على أنظمة وقوانين غير سعودية، والمحاكم غير ملزمة بتطبيقها؟
هنا أبدأ في النقاش معهم، في إظهار الجانب الإيجابي في مرونة السلطة التنظيمية في المملكة، والتطوير الذي تنتهجه الحكومة الرشيدة، والذي يرتكز على أسس الشريعة الإسلامية، والمبادئ الدستورية الواردة في النظام الأساسي للحكم، حيث بدأت العملية التطويرية لإيجاد نظام(قانون) مدني في المملكة بصدور أمر ملكي عام ١٤٢٦ه بتشكيل لجنة مرتبطة بالملك مكونة من عدد من العلماء لوضع ( مشروع مدونة الأحكام القضائية)، ولكن “اتضح بعد الدراسة أنها لا تفي باحتياجات المجتمع وتطلعاته”، ومن هنا صدر التوجيه الكريم بإعداد مشروعات الأنظمة التشريعية ومنها نظام المعاملات المدنية، والتي “تسترعي الأخذ بأحدث التوجهات القانونية والممارسات القضائية الدولية الحديثة، بما لا يتعارض مع الأحكام الشرعية، ويراعي التزامات المملكة فيما يخصُّ المواثيق والاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها”، حيث أشار سيدي صاحب السمو الملكي ولي العهد رئيس مجلس الوزراء -حفظه الله- إلى أن “عدم وجود هذه التشريعات أدى إلى تباين في الأحكام وعدم وضوح في القواعد الحاكمة للوقائع والممارسات، ما أدّى لطول أمد التقاضي الذي لا يستند إلى نصوص نظامية، علاوة على ما سبَّبهُ ذلك من عدم وجود إطار قانوني واضح للأفراد وقطاع الأعمال في بناء التزاماتهم”.
صدور نظام المعاملات المدنية، يعد من أضخم الأنظمة التشريعية في تاريخ المملكة بمواد تتجاوز 700 مادة، في 181صفحة، وأحكام تنظم أحكام الالتزام، ومصادره، والعقود المسماة، والحقوق ونظريتها، وما تبع ذلك من الحقوق العينية. هذا العمل التشريعي الضخم يستلزم شرحاً وافياً لأحكامه ومواده يساعد جميع المهتمين بالشأن القانوني والقضائي في فهم غايات ومقاصد النظام، وأحكامه، ويبين كيفية استنباط الحكم من النص النظامي، ولا بد أن يكون ذلك الشرح من أشخاص لهم قدرهم في الممارسة العملية الممتدة لتعليمهم النظامي والشرعي، على شاكلة مؤلفات الفقيه المصري د.عبدالرزاق السنهوري في شرح القانون المدني المصري والذي لازال مصدراً لجميع المهتمين بالشأن القانوني، أيضاً كتاب The Commentaries on the Laws of England للفقيه الإنجليزي Sir William Blackstone والذي يعد مصدراً مهما لجميع المهتمين بنظرية الحق، والمسؤولية التقصيرية، وما يتبع ذلك من أحكام، ولعل الجامع بين هذين الكتابين هما مؤلفيهما اللذان اكتسبا التعليم العالي في أرقى الجامعات إضافة إلى ممارسة القانون لفترة طويلة، جعلت منتجها العلمي ركيزة أساسية لرجال القانون.
وفي ضوء الأحداث المتسارعة، والمتغيرات، يتطلب الأمر مع صدور نظام المعاملات المدنية شرحاً لأحكامه، مقروناً بالأحكام والمبادئ القضائية إن وجدت، ليكون مرجعاً قانونياِ وفقهياً لجميع القضاة، ورجال القانون من محامين، وأساتذة جامعات، وباحثين، إلا أن هذا الأمر يتطلب عملاً بحثياً وعلمياً محوكماً لضمان التأكد من كون المخرج يتوافق مع غايات المنظم عند إصداره للنظام.
ولعمل ذلك، يقترح أن يتم تشكيل لجنة علمية من مجموعة من الفقهاء والقانونيين والقضاة لشرح أحكام النظام، وأن يتم حوكمة أعمال تلك اللجنة ومرجعيتها الفنية إلى لجنة إشرافية مشكلة من عدد من أصحاب الخبرات القضائية والقانونية، وخاصة ممن شارك في صياغة أحكام النظام، تكون مهمتها التأكد من أن شرح النظام يتوافق مع غايات وأهداف المنظم السعودي عند وضعه لتلك الأحكام، و أن تكون مرجعية اللجنتان معالي وزير العدل، أو نائبه، على أن يتم تقسيم العمل البحثي على كل موضوع من مواضيع النظام، مثلاً: أحكام الالتزام، مصادر الالتزام، العقود المسماة، المسؤولية التقصيرية،ألخ. بهذا العمل العلمي القانوني سنحقق أكثر من هدف، مثل: إيجاد مرجعية علمية قانونية للقضاة والمهتمين بشأن القانوني السعودي يساعدهم في التطبيق الأمثل للنظام، وإثراء المكتبة القانونية السعودية بما يتوازى مع الحراك القانوني والنظامي للحكومة، بما توافق مع تطلعات القيادة الرشيدة في المساهمة رفع الثقافة القانونية، وتعزيز سمعة المملكة في اهتمامها برفع قدراتها التنظيمية والنظامية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال