الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
هذه المسألة من الميادين التي أعمل الباحثون فيها أقلامهم وآرائهم. وربما اتكأ عليها معظم القرارات القضائية في القضاء العام. ذلك أننا نرى ما يشبه الاتفاق – في القضاء العام – على عدم التعويض عن الضرر المعنوي أو الأدبي أو النفسي، ويبررونها ببعض التعليلات التي ذكرها باحثوا المسألة من الفقهاء المعاصرين.
بين يدي قضية إهمال طبي، طلب فيها المدعي تعويضه عن الضرر النفسي. إلّا أن الدائرة لم تبحث سبب المطالبة، وغفلت عن تكييف الدعوى. وربما حجبها عن ذلك إشعاع عبارة “الضرر النفسي”، وإليها صوّبت الدائرة نظرها؛ فقررت رد الدعوى. معللّةً أن ذلك يدخل في الضرر المعنوي الذي منعه قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 109 (3/12) عام 1421، فالقرار جاء فيه “خامساً: الضرر الذي يجوز التعويض عنه يشمل الضرر المالي الفعلي… ولا يشمل الضرر الأدبي أو المعنوي”. واستشهدت الدائرة أيضاً بقرار المحكمة العليا رقم 429183 في 10/2/1442ه الذي ينص على أن أهل العلم قرروا عدم جواز التعويض عن الأضرار المعنوية، لعدم إمكانية قياسها ولا ضبطها.
والحقيقة أنه بتأمل قرار الدائرة ومستندها فيه، أجد قرار المجمع يختلف مناطه وسياقه؛ إذ لم يكن منصباً على تقرير مسألة التعويض عن الضرر المعنوي، بل كان القرار يحرر مسألة التعويض عن الإخلال بالعقد عند وجود شرط جزائي.
وقد قرر المجمع عدم جوازه؛ لشبهة الربا؛ لأنه زيادة في الدين مقابل الأجل. وبرر ذلك بسبعة أسباب، سردها من أولاً حتى سابعاً، وحين جاء إلى السبب الخامس، قال: “وخامساً: الضرر الذي يجوز التعويض عنه هو الضرر الفعلي… لا الأدبي أو المعنوي”. أي أن التعويض عن الشرط الجزائي- في حال الإخلال بالعقد وعدم تنفيذه، مع وجود ضرر- يقتصر على الضرر الفعلي فقط دون المعنوي.
وعليه فالمجمع يقرر منع التعويض المعنوي مقابل شرط جزائي عند الإخلال بالعقد؛ لوجود نفس العلة وهو الزيادة في الدين مقابل الأجل، ولم يكن كلامه منصباً على تقرير مسألة التعويض عن الضرر المعنوي أساساً. وإذا تقرر ذلك، فإن مناط القرار هنا يختلف عن مناط وسياق القضية التي حكمت فيها الدائرة برد الدعوى. والأمر ذاته متكرر في قرار المحكمة العليا الذي جاء في سياق مطالبة متظلم برد الاعتبار إليه عن طريق التعويض. فلم يكن قرار المحكمة العليا تقريراً لمبدأ قضائي في الضرر المعنوي بشكل عام.
في مقابل ذلك، نجد آثاراً يذكرها الفقهاء تجيز التعويض عن الضرر المعنوي. فقد سُئل محمد بن الحسن عن الجراحات تندمل، قال فيها حكومة عدل لما فيها من الألم. فاعتبر الألم ضرراً معنوياً يُجبر بحكومة عدل. وجاء عن عمر بن الخطاب تعويض من ارتاع منه، رغم أن الروعة معنوية لا يمكن تحديدها ولا قياسها. وأفضل من ذلك، استحقاق المطلقة نصف المهر إذا كان قبل الدخول. فنصف المهر هنا تعويض عن انكسار نفسها، وهو تعويض معنوي لا شك فيه. فلماذا، لا يعوّل القضاء على مثل ذلك، ويهزع إلى الاستشهاد بالرأي الفقهي؟ مع أن مجال القضاء يختلف عن مجال الفقه، فالأول يجعل لكل قضية اعتبار منفصل عن نظيرتها، في مقابل السعة التي يجدها الفقية عند تقرير مسألة ما.
على كل حال، عادةً في مضمار الفقه والقانون، الرأي الفقهي يسبق التشريع النظامي، فيكون ممهداً له في إصدار قانون أو تعديله. ذلك أن الفقهاء يتطرقون للمسائل المعاصرة بالبحث والتقصي – والتي للأسف نجد غيابها في مسألتنا هذه – قبل إقرارها في تشريع ما. لذلك، وعلى خلاف تلك العادة؛ نجد القانون سبق شُرّاح الفقه في تقرير مسألة التعويض المعنوي. بين أيدينا عدد من المواد النظامية في أنظمة مختلفة تظافرت على تقرير التعويض عن الضرر المعنوي، وكلها صدرت بعد قرار المجمع آنف الذكر.
على سبيل المثال: نظام الإجراءات الجزائية نص في مادة 207 على جواز تضمين الحكم التعويض عن الضرر المادي والمعنوي. ونظام مزاولة المهن الصحية ولائحته التنفيذية في المادة 35/1 قرر أن من لحقه ضرر من الخطأ الطبي فله حق المطالبة بالتعويض. وهو وإن لم يوضح التعويض هل يشمل المعنوي، إلا أن سكوته يُفسر لصالح الطرف الأضعف خاصة وأن الممارس الصحي مؤمّن عليه ضد أخطائه، بل ذلك من واجباته المهنية التي لا يستطيع مزاولتها إلا بوثيقة تأمين. وفي اللائحة التنفيذية لنظام المحكمة التجارية مادة 164 نصت على أن تُضمن المحكمة حكمها في الموضوع طلب التعويض عن الأضرار المادية والمعنوية بما في ذلك مصاريف التقاضي. وأخيراً صدور نظام المعاملات المدنية الذي نص في مادة 138 على أن التعويض يشمل الضرر المعنوي. وصدور هذا النظام ينطبق عليه المثل المشهور: قطعت جهيزة قول كل خطيب.
يبدو أن شبه اتفاق أحكام القضاء العام على عدم التعويض المعنوي عائد إلى صعوبة التقدير، وغياب المعايير التي يمكن في ضوئها تقدير التعويض العادل أو المناسب. وربما يسلكون هذا المسلك هروباً من الدخول في دهاليز هذه المسألة. وقد يُقال: ليس من العدالة أن يُفرض على الخصم مبلغاً مالياً قد يكون ظلماً في حقه، خاصة مع غياب الميزان في ذلك! في مقابل هذا، يقال لهم: ليس عدلاً – أيضاً – أن يُخلى سبيله لصعوبة التقدير، وبالتالي إهدار حق المدعي، وقواعد الشريعة تأباه.
ويبدو أن القضاة – مع صدور نظام المعاملات المدنية – سيكون وضعهم أصعب مما سلف. فالنظام أغلق باب الوهم الذي صنعه قرار مجمع الفقه الإسلامي، والذي يمكن أن يعتبر مخرج طوارئ. وهي صعوبة لا يُمكن إنكارها؛ إذ لا يوجد معايير يمكن التعويل عليها في تقدير التعويض كما حكاه قرار المحكمة العليا “لا يمكن تحديده ولا ضبطه”. بيدَ أني وجدتُ بحثاً محكّماً نفيساً (1436هـ) في بابه، للدكتور منصور الحيدري – أستاذ بجامعة الإمام بالرياض – (عن طرق التعويض عن الضرر المعنوي). أشار فيه إلى عدة طرق يمكن من خلالها تقدير التعويض المناسب في القضية. فذكر ثلاثة طرق موجودة لدى المحاكم الأمريكية. الطريقة الأولى: التخيّل، بأن يضع الشخص مثلاً نفسه مكان المتضرر، ثم يقرر ما يستحقه من تعويض. وقال إن هذه ترفضها المحاكم الأمريكية؛ لأن مبناها على العاطفة. والطريقة الأخرى بالحساب اليومي (المياومة) بتقسيم الضرر الذي استمر لزمن إلى وحدات في اليوم الواحد ثم يُفرض لكل وحدة مقابل مالي لها ثم تضرب في عدد وحدات اليوم ثم في عدد الأيام. والأغلبية تُجيز التعامل بها. والطريقة الثالثة: الجزافية (الخرص) دفعة واحدة، ويرى أنها مقبولة لدى معظم محاكم الولايات المتحدة الأمريكية. وأن النبي عليه الصلاة والسلام قد استعملها حين فرض لأحد الصحابة عشرين صاعاً، وحين فرض عمر بن الخطاب أربعين درهماً لمن أخطأ عليه بلا وجود ضرر مادي. والحقيقة أن مسألة الجُزاف مذكورة في الفقه في مثل زكاة الثمار، فيُخرص الثمر أي يُقدّر بالنظر، بيدَ أنه يكون من أهل الخبرة.
الدكتور الحيدري مضى في بحثه بعمق، وبروح تتسم بالتواضع والجدة والنقد. فيُضيف على الطُرق السالفة طرقاً أخرى بديلة مثل شراء تغطية تأمينية، وإزالة الخطر، والمضاعف العمري وغيرها. ثم يقترح معياراً للتقدير المعنوي حاول فيه أن يصنع مزيجاً من الطريقة الفقهية الإسلامية والطريقة الأمريكية، فجعل حداً أعلى ينبغي ألّا يتجاوزه التعويض وهو مقدار الدية في الإصابات.
يختم د. الحيدري مقترحه بقوله: أنه لا يزعم خلوه من العيب أو أنه استند فيه إلى دراسات متخصصه، وإنما هي محاولة للاستفادة من المعمول به في الولايات المتحدة الأمريكية، مضيفاً إليه ما وجده في الفقه الإسلامي.
ختاماً، تعاني بعض البحوث الفقهية من عدم العمق والتقصي – من بينها ما كُتب في التعويض عن الضرر المعنوي – وتخلو من التطرق إلى بحوث الآخرين وتقييمها. فباتت وعاءً يجمع الأقوال في المسألة خالية من الحياة والجدة. والنقد العلمي هو حياة البحوث وهو الذي يجعل القارئ يطرب وهو يقرأ.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال