الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أتذكر جيدًا معارك الكرّ والفرّ في حديث النفس عن المستقبل، وماهية الوجهة المناسبة لي بعد إمضائي عدة سنوات بالقطاع المصرفي. فكانت بعض الأصوات تعلو تارةً، ولا تكاد تُسمَع تارةً أخرى، وهكذا بين إقدام وإحجام، وذهاب وإياب.
كنت أتساءَل دائمًا: هل أواصل الصعود على سُلّم الوظيفة ابتغاءً للرتب السريعة، أم ثمة أولويات أخرى ترمقني من بعيد هي أحرى بالنظر وأجدى للتفكّر؟ جميع هذه السنوات المصرفية قابلتها استفادة ثرية في مجال مالي دقيق، ومديرون بذلوا نُصحًا ودعمًا لا يتناهى، وبيئة عمل لا تُضاهَى، ومكافآت لم تسلك إلا سبيل الصعود للأعلى، ولله المنة والفضل. باختصار، قد بلغ كل شيء ذُرَاه وتمامه.
ولكن كما قال شاعر مدينة رندة الأندلسية –رحمه الله–: “لكل شيءٍ إذا ما تمَّ نقصان”.
ومع الوقت بدأ يتنامى ذاك التساؤل: هل تسارُع التحصيل العلمي والعملي ما يزال صحيًّا؟ دعوني أفسِّر لكم ماهية هذا التساؤل. عند البدء بالوظيفة الأولى كمستجدّ في القسم، كنت أغبط زملائي الذين سبقوني؛ لأنهم أدركوا مسار العمل وروتين المهام، وخرجوا من عتمة المستهدفات إلى جلاء المسؤوليات، واكتشاف ما ينبغي عمله. فانكفأت ملازمًا لبعضهم، وكان لهم الفضل بإرشادي لطريق مُعبَّد أنطلق منه وأسير عليه، فكان ما كان، ولله الحمد. وعليه فإنَّ “تسارُع” و”كمّية” التحصيل العلمي والعملي أصبحت في تزايد حينها.
هذا المنحنى التحصيلي التصاعدي كان بوضع صحي، وكنت أصقل الجانب العملي بالشهادات المهنيّة، مصطحبًا العزمات العليّة، التي أشبهها بجرعة تعظم الاستفادة وتحفز الاستزادة. كنت أسأل بكثرة، والفضول يدفعني لأكشف خبايا الوظيفة والمهام، وما أستطيع أن أقدمه بشكل مغاير وبفاعلية، وأيقنتُ أن العلاقة الصحية مع زملاء العمل في قسمي والأقسام الأخرى ضرورة لا يُستهان بها للارتقاء المعرفي وبلوغ الاحترافية في العمل، واجتلاب الفائدة عليَّ وعلى الجهة التي أعمل بها.
وبعد ما يقارب الخمس سنوات بالوظيفة الأولى جاءت اللحظة التي أحسست معها أن المنحنى التصاعدي لكمية التحصيل العملي المعرفي بدأ يتراجع شيئًا فشيئًا. وعندما سنحت الفرصة للانتقال لوظيفة أخرى ملائمة في منظمة مناسبة لم أتوانَ عن قبولها؛ ليقيني بالخبرة التي ستأخذني لعالم آخر، وتقذف بي عاليًا لمنحنى علمي صحي جديد، وتجربة ستعود بالفضل عليَّ مستقبلًا، رغم الغُصَّة التي شعرتُ بها لوداع إخواني والمديرين الذين قضيتُ معهم سنوات الاستفادة والدعم على كافة المستويات.
وفعلًا باشرتُ المهمة الجديدة باتقاد وحماسة! فبرغم التحديات الجديدة وزيادة عبء الأسفار في أصقاع الأرض وضغط المستهدفات؛ إلا أنني لم أتخيل قط حيازة هذا الكَمّ الهائل من فُرَص التعلم، سواء على مستوى بيئة وبروتوكولات العمل أو اكتساب البراعة التي لا تَقبل أنصاف الحلول لإنجاز العمل وتفاصيله. هنا لاحظتُ أن ثقتي المهنية –بما يتم تحصيله من معرفة– قد وثبت عاليًا، وأصبحت أتذوق طعم العلم بشكل مختلف ولذيذ! فكما قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: “وانْصَبْ! فإن لذيذ العيش في النَّصَب”، وأدركتُ بشدة كذلك صحة وعظيم قوله: “إني رأيتُ وقوف الماء يُفسِده … إن ساح طاب، وإن لم يَجْرِ لم يَطِب”.
فما زلتُ أعالج وأصون هذه المعرفة والارتقاء كلما سنحت الفرصة. بعدها بدأ يلوح بالأفق أمرٌ كان يراودني على استحياء بين الحين والآخر، وهو بدء العمل الحر، وسلك طريق ريادة الأعمال.
عندها ابتدأت بتقييم جدوى هذا الأمر، وأحمد الله أن قيَّض لي شريكًا انتخبني وانتخبته لخوض المغامرة الفريدة. كانت خطوة الألف ميل الأولى معرفة مواطن القوة وبواطن الضعف لنا، وكيف لخبراتنا أن تخدم المجال الذي نحن بصدده. الذي صعَّب من هذه المهمة: عدم وجود عمل قائم بالسوق مطابق أو حتى مشابه، وبالتالي انتفاء المعيار الذي به نقيس وعليه نَزِن. ومع هذا كانت العزيمة ثابتة، والمشيئة ماضية لعدة أسباب؛ أذكر منها:
ومع انعقاد الأمل بالله والتوكل عليه، ومِن ثَم إمضاء العزائم وإبرام الأمر؛ قررنا ترك الوظائف ومباشرة العمل. شعور الحاجة للبقاء وإثبات النجاح دفعنا لنواصل رحلة التعلم بالشهادات المهنية ذات العلاقة، وفي ذات الوقت إرساء مجموعة من المشاريع لتكون باكورة الانطلاقة الفعلية. وهذا ما كان؛ فالشكر لله في بَدْءٍ ومختتم.
مهما كانت خطة العمل المرسومة، وقائمة الخدمات المنشودة واضحة قبل البدء لرائد العمل؛ فإن انكفاءك على العمل الخاص بدوام كامل، والتفكير بصفاء حول كيفية ابتكار الخدمات، وطرق التسعير؛ مُهِمّ ومُلهِم. كل فرحة صاحبت إرساء مشروع –مهما كان صغيرًا– قابله شعور بالمسؤولية لتقديم ما تعاهدناه بنطاق العمل. فبعد كل مشروع كنا نقوم برصد سُبُل التحسين، وندأب على التدوين، ومع الوقت أصبحت كفاءة تقديم المشاريع وخصائص المنتجات تتطور.
بداية الانطلاقة الحقيقية نحو تحقيق نتائج إيجابية كانت مع جائحة فيروس كورونا أوائل عام 2020م، ولم يكن بالحسبان انتفاض وانتعاش العمل جراء عامل خارجي كهذا. وهنا درسٌ، قد يستحيل ضبط وقت دخول مثالي لعالم ريادة الأعمال. وبالتالي فإن وضوح الرؤية في خطة العمل، واكتمال أغلب عناصر التنفيذ يعتبران من أهم الأركان التي تمنحك الضوء الأخضر للمغامرة.
يكثر الجدل حول جدوى تغيير المُنْتَج أو خصائصه؛ طبقًا لما يريده العميل، أو وفقًا لما تعتقده أنت من صالحه. فلسفتي البسيطة التي وجدتُ فائدتها أنَّ المُنتَج أو الخدمة التي تقدّمها إذا كانت شديدة التعقيد؛ فالميل يكون تجاه تطبيق ما تعتقده أنت أفضل للعميل، وليس العكس (مع عدم الإخلال بالرغبات الأساسية له)؛ لأن لكل عميل وجهة نَظر وستُصَاب بالتشتُّت على المدى المتوسط إذا كانت نسبة التغييرات كبيرة، حتى تجدك قد فقدت جاذبية توحيد طريقة عمل المنتج وإخراجه بشكل ممنهج. هنا الكفاءة ستُصَاب بوعكة، ولن تستطيع أن تقلل من الوقت المستغرق لتقديم المنتج في قادم المشاريع.
دعوني أخرج من الإسهاب الدقيق، وأعود مجددًا لأحلِّق على مستوى مرتفع. من الوارد والمرجَّح أن تجد العوائد المالية لريادة الأعمال بالسنوات الأولى أقلّ مقارنةً بالوظيفة الآمنة التي كنت بها ابتداءً، ولكن هناك مكاسب جلية وجليلة تستحق الإشارة. أذكر على سبيل المثال: أن الحاجة لخلق سوق وإحداث تغيير يجبرك -لا محالة- أن تقرأ بنَهَم حول مجالك، وتُعمِل العقل وتُرهِق الفكر في ارتقاء عملك، وإيصال صوتك وريادتك إلى مجتمعك.
الأمر الآخر هو العمل على سَقْي بذرة الشركة لتكبر معها؛ لتقطف ثمرة تلك الفرصة التي ستجعل قيمة هذا الأصل يتنامى إلى قِيَم كمية ونوعية لم تكن بالحسبان.
أُضيف كذلك أن عشوائية الحياة قد تكافئك أكثر عند سلك مدارج ريادة الأعمال؛ لتوفر الفرص فيها والمفاجآت على نحو غير متوقع، خصوصًا إن كنت تملك المرونة للتكيُّف. هناك أيضًا العوامل التي تدور حول اتخاذ القرارات والاستفادة من الأخطاء؛ فهذا لوحده مدرسة بالحياة عامة لا يستأثر بالاستفادة منها مجال العمل حصرًا. ربما يكون من أثمن المزايا وواسطة عقد ريادة الأعمال والشراكات أنها تحمل معها بشارات فتح الرزق لك وللآخرين؛ كما كان يردد والدي -رحمه الله-.
أكتب هذه السطور، وما زلتُ في خضم ريادة الأعمال، والتقلُّب في نعمائها، والتلذذ بحلّ مشكلاتها، وهنا خاطرة قد تكون أهم من كل ما سبق! أنا لا أقيس نجاح ريادة الأعمال مما أنتجتها من المال. فهذا وإن كان من العوامل الأساسية؛ فإن أهم عامل –من وجهة نظري– هي الرضا والقناعة بأنك تسير بالاتجاه الصحيح حسب الخطة دون أن تكلف نفسك فوق طاقتها، وتحترق عدة مرات في أيام العمل والإجازات.
إذا وجدت هذا التوازن السحري بين عملك وحياتك وسائر هواياتك؛ فهنيئًا لك. على مدار أكثر من ست سنوات بالريادة، لا أكاد أذكر أني أرهقت نفسي بالعمل خلال عطلات نهاية الأسبوع بشكل متواصل؛ لأن لبدنك عليك حقًّا. مع العلم أن نُضْج العمل قد يكون أسرع عند تسخير الساعات المتواصلة والسهر غير المنقطع، ولكن هذا ما جُبلت عليه ووجدت فيه راحتي وتوازني بالحياة ليكسبني الرضا والقناعة.
وكما قال خير الأنام -صلى الله عليه وسلم-: “كلٌّ مُيسَّر لما خُلِقَ له”؛ فهذه تجربتي الشخصية التي وافقتْ معطيات ذاتية، ساعدتني أن أعيشها، وأخوض معتركها بهذه الكيفية. بالتالي فهذه الحالة لا تنطبق على الجميع؛ فلكل فرد وَضْعه الخاص ولونه الفريد، ومع ذلك أنا مدرك أني قد سهوت في جوانب كثيرة؛ نظرًا لمحدودية التجربة التي ما زلتُ أخوض بحرها. فأرجو ألا يُفهَم أني أُروّج لريادة الأعمال دون الوظيفة، فمساري بالأساس هجينٌ بين هذا وذاك، وقد يبرع في جانب الوظيفة فردٌ يعود مردوده على نفسه ومجتمعه أضعاف ما يحرثه مئة رائد عمل.
وختامًا لا بأس بذكر بعض الفوائد التي وقفت عليها وعايشتها، وأكسوها ببعض الأبيات فيستقر فهمنا، وتقر بها أعيننا -إن شاء الله-:
ولا تستشر إلا صديق يودّك
في الله صافي السر مأمون عاقبه
أمين على سرك ويبصرك ما خفي
وكشاف لأسرار بالألباب غايبه
وقال آخر:
لا تَستشِرْ غيرَ نَدْبٍ حازِمٍ يَقِظٍ
قدِ اسْتَوى مِنهُ إسْرارٌ وإعْلانُ
ورافِقِ الرَّفْقَ في كُلَّ الأمورِ فلَمْ
يندّمْ رَفيقٌ ولم يذمُمْهُ إنسانُ
ولا يَغُرُّنكَ حَظُّ جَرَّهْ خَرَقٌ
فالخُرْقُ هَدمٌ ورِفقُ المَرءِ بُنْيانُ
قيمةُ الإنسانِ ما يُحسنُهُ
أكثرَ الإنسانُ منهُ أمْ أقَلْ
في ازديادِ العلمِ إرغامُ العِدى
وجمالُ العلمِ إصلاحُ العملْ
وكان بنو عمي يقولون مرحبًا
فلمَّا رأوني مُعْدَمًا مات مَرْحَبُ!
دعِ التكاسُلَ في الخَـيراتِ تطلُبُـها
فليـسَ يسعَدُ بالخَــيراتِ كَسْـلانُ
إِذا اِعتادَ الفَتى خَوضَ المَنايا
فَأَهوَنُ ما يَمُرُّ بِهِ الوُحولُ
ويقول ناظم هذا البيت كذلك
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها
وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ
والحِرصُ في الرزق وَالأَرزاقِ قد قُسمت
بَغْيٌ أَلَا إن بَغْيَ المَرءِ يَصرعه
وقال آخر:
وذو القناعة راضٍ من معيشته
وصاحب الحرص إن أثرى فغضبان
وهنا حكمة عظيمة:
نَزدادُ هَمًّا كُلَمّا اِزدَدنا غِنًى
وَالفَقرُ كُلَّ الفَقرِ في الإِكثارِ
ما زادَ فَوق الزادِ خُلِّف ضائِعًا
في حادِثٍ أَو وارِث أَو عاري
إذا أنت لم تعرف لنفسك قدرها
تُحمّلها ما لا تطيق فتهلك
وقال آخر:
وإذا رجوتَ المستحيل فإنما
تبني الرجاء على شفير هاري
وَإِن أوتيتَ فيهِ طولَ باعٍ
وَقالَ الناسُ إِنَّكَ قَد سَبَقتا
فَلا تَأمَن سُؤالَ اللَهِ عَنهُ
بِتَوبيخٍ عَلِمتَ فَهَل عَمِلتا
فَرَأسُ العِلمِ تَقوى اللَهِ حَقًّا
وَلَيسَ بِأَن يُقال لَقَد رَأَستا
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال