الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
قد تَصِلُ الخصومة بين الأفراد إلى نقطة اللاَّعودة؛ أي النقطة التي لا يمكن معها الوصول إلى أيِّ حلٍّ ودّيٍّ، فيكون توجُّه المتخاصمين نحو القضاء لا مفرَّ منه.
لكن المشكلة هي أنَّ الخصومة تَستَهلِكُ جُهدَاً ووقتاً ومالاً من كِلَا الطرفَيْن المُتَخَاصِمَين، فإذا أردنا احتساب هذه التكلفة الباهِظَة من الانتظار والقلق، وتشتيت الذهن والمجهود، إضافةً إلى تشويه السمعة؛ لوجدنا أنَّ معادلة الخصومة هي معادلة خاسِرَة لِكِلَا الطرفَيْن.
أكثر من ذلك، إذا قامَ شخصٌ بطلب التعويض من شخص آخر قام بالإضرار به، فإنَّ تحصيل الحق وتنفيذِهِ والحجز على مُمتَلَكَاتِ المحكوم عليه تُصبِحُ إجراءاتٍ معدومةَ القيمةِ مالياً إذا كان الشخص لا يَمتَلِكُ شيئاً باسمِهِ، بل سجَّل أملاكَهُ وأموالَهُ باسم أقارِبِهِ أو أشخاصٍ يَثِقُ بهم، عندها لن يكون أمام صاحب الحق سوى الضغط على المدين عبر إجراءات مثل وقف الخدمات المدنية وخلافه من الإجراءات غير مضمونة النتائج مالياً.
وبالمقابل، فإنَّ الشخص الذي تسبَّب بالإيذاء، إذا لم يُبَادِرْ إلى سداد مَبلغٍ اتفاقيٍّ حتى يُرضِي الطرف المُتَضَرِّر، وأصبَحَ موضوع التعويض بيد القضاء، فإنَّ التكلفة قد تُصبِحُ باهظةً جداً، إذا احتَسَبنَا التعويض المادي والمعنوي وتكاليف ورسوم التقاضي التي سَيَتَحَمَّلُهَا الطرف الخاسر للدعوى، إضافةً لوقف الخدمات المدنية الإجراء الذي سيُصِيبُ حياتَهُ بالشلل.
كلُّ هذا الواقع يُؤثِّرُ بشكلٍ مباشرٍ على البيئة الاستثمارية المحلية، بسبب:
سحب السيولة من الأفراد سواءً لدى تسديدهم لأتعاب المحاماة وتكاليف القضاء، أم لدى تسديدهم للتعويضات الباهظة بعد خسارة الدعوى؛ وهكذا، سيذهب هامش من سيولة الأفراد إلى الإنفاق على الخصومات.
الإضرار بالاستقرار الذهني للأفراد، ومنعهم من التفكير بالمستقبل وتثمير الأموال.
وفي الواقع، يوجد احتمالات خصومةٍ أكثر جسامةً من حيث آثارها المالية على الأفراد، ومنها الاحتمالات التي يُوَاجِهُهَا أطراف الخصومة بعد صدور قرار محكمة الدرجة الأولى، حيث يَنتَقِلُ النظر بالدعوى إلى محكمة الاستئناف التي تَنظُرُ بالموضوع مرَّةً ثانيةً.
وعلى الرغم من أنَّ اللائحة التنفيذية لطُرُق الاعتراض على الأحكام لعام 1445 قد نصَّت صراحةً على مبدأٍ عامٍّ مَفَادُهُ أنَّه: “لا يُضَارُّ المُعتَرِضُ باعتِرَاضِهِ” (مادة 17)، أي أنَّ أكبر خسائر المُعتَرِض على حكم تعويضٍ بمبلغ 100 ألف ريال مثلاً، يجب أن تكون تثبيت هذا المبلغ عليه دون أن يَزِيدَ التعويض ريالاً واحداً.
على الرغم من هذا المبدأ، إلاَّ أنَّ المُعتَرِض قد يُضَارَّ باعتِرَاضِهِ في حالةٍ واحدةٍ، وهي أن يكون الطرف الذي رَبِحَ الدعوى بالدرجة الأولى قد اعتَرَضَ أيضاً على الحكم الذي رَبِحَهُ بعد عِلمِهِ باعتراض المدعى عليه، ويكون سبب اعتراض المدعي هو أنَّ حكم الدرجة الأولى لم يمنحْه مبلغ التعويض الذي طَلَبَهُ كاملاً، وليكن مثلاً مليون ريال.
وهكذا، قد تكون نتيجة عدم وصول أطراف دعوى التعويض إلى حلٍّ وديٍّ، واستمرار الخصومة ووصولها إلى محكمة الاستئناف، ما يلي:
قد يَقلِبُ المدعى عليه الدعوى على المدعي الذي ربح تعويض بمبلغ 100 ألف ريال، ويَخسَرُ المدعي التعويض ويتحمَّل تكاليف الدعوى بعد الاعتراض عليها أمام الاستئناف إذا استطاعَ المدعى عليه نَفيَ المسؤولية عنه؛ كأن يُثبِتَ المدعى عليه القوة القاهرة أو أيَّ عنصرٍ يَنفِي الخطأ منه.
قد يَقلِبُ المدعي الدعوى على المدعى عليه الذي اعترض على حكم التعويض بمبلغ 100 ألف ريال، فبدلاً من تخفيض المبلغ، يَجِدُ المدعى عليه أنَّ محكمة الاستئناف قد قَبِلَت اعتراض المدعي وزادت مبلغ التعويض حتى يَصِلَ إلى مليون ريال؛ خاصَّة إذا استطاع المدعي إثبات عدم مراعاة حكم أول درجة لجسامة الأضرار التي أصابته.
بالنتيجة، نَجِدُ أنَّ الاعتراض على الأحكام قد يَزِيدُ بشكلٍ جسيمٍ من الآثار المالية للخصومة على الأفراد، بينما لو تمَّ حلُّ الموضوع ودياً بعد حكم الدرجة الأولى وقبل الاعتراض لكانت هذه الآثار أقلَّ بكثيرٍ.
بناءً عليه، نستطيعُ وَضعَ بعض المقترحات في سبيل الموازنة بين حماية حقوق الأفراد من خلال قضاء الخصومة من جهةٍ، والتخفيف من آثار الخصومة على مُدَّخرات الأفراد وحياتِهِم من جهةٍ ثانيةٍ، كالتالي:
إنشاء جلسة أولى في محكمة الدرجة الأولى بِغَرَضِ المُصَالَحَة بين الأطراف تحت إدارة القاضي؛ بحيث يُحَاوِلُ القاضي إيجادَ حلٍّ وسطٍ بين الأطراف لحل الخصومة، وتَنبِيهَ أطراف الدعوى للآثار المالية الجسيمة التي قد تُصِيبُهُم مع الاستمرار بالإجراءات.
إنشاء مرحلة مصالحةٍ لِمَا قبل الاعتراض على الأحكام، وذلك بعد صدور حكم الدرجة الأولى -بِمَا لا يؤثِّر على مُهَلِ الاعتراض على الأحكام-؛ بحيث يَجتَمِعُ الأطراف لإيجادِ حلٍّ وديٍّ للنزاع قد يتضمَّن تنازلاً الطرف الرابح للدعوى عن بعض حقوقه في مقابل تنفيذ الطرف الخاسر لجزءٍ معقولٍ من هذه الحقوق، وذلك تحت إدارة قاضي الاستئناف الذي يكونُ دَورَهُ تَوضِيحَ الآثار المالية الجسيمة للاستمرار بالخصومة أمام القضاء بعد الاعتراض على حكم الدرجة الأولى.
إنشاء صندوق في وزارة العدل يَصرِفُ مكافآتٍ للمحامين والقضاة الذين استطاعُوا إيصالَ الخصوم في المحكمة إلى صيغة تفاهمٍ وديةٍ، على أن تُحتَسَبُ المكافآت من قيمة النزاع.
دعم مراكز التوفيق والوساطة بغرض تكريسِهَا كثقافةٍ لدى الأفراد، قبل الانجرار وراء الخصومات التي يكون الغرض منها -في الكثير من الأحيان- مُجَرَّدَ الإضرار بالطرف الآخر كَيدَاً وإِجبَارِهِ على أحكامٍ إلزاميةٍ تَكسِرُ إرادَاتَهُ، فتكون النتيجة الإضرار بالطرَفَيْن مادياً ومعنوياً؛ وهنا يُحَاوِلُ المُوَفِّق أو الوسيط الإصلاح بين الأطراف لِمَصلَحَتِهِمَا معاً.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال