الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
جاء اعلان قادة كل من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والهند والأمارات، على هامش قمة مجموعة العشرين التي استضافتها الهند يومي 9 و10 من الشهر الحالي (سبتمبر/ أيلول 2023م) في نيودلهي، وبغياب ملحوظ للقيادة الصينيه وكذلك الروسية، جاء اعلان تلك الدول بالعمل على تأسيس ممرات عبور خضراء عابرة للقارات وذلك في محاكاة لطريق التوابل الهندي القديم، حيث كان لزراعة التوابل وتداولها بنطاق تجاري تاريخ طويل في آسيا قبل وصول الأوروبيين المستعمرين إلى تلك المناطق بوقت طويل.
كان هذا الطريق يبدأ من الهند والتي كانت المركز لزراعة التوابل بشتى انواعها مروراً بالطرق البرية والبحرية، وكان التجار يعقدون الصفقات على الطريق ويتبايعون ويشترون ويضاربون فيها إلى وصولها إلى الموانئ والمرافئ البحرية أو عبر الطرق البرية، وكان للتجار العرب باع كبير في تجارة تلك البضائع كما ازدهرت عدة مدن عربية عبر هذا الطريق التجاري.
ووفقاً للمؤرخ البريطاني جون كياي، المختص بتاريخ الحضارات القديمة في كتابه عن تاريخ البهارات والطرق التجارية التي كانت تسلكها في العالم: “أن قبيلة قريش كانت تتاجر بها أيضاً في القرن السادس بعد الميلاد. وكانت القوافل تنطلق من مكة إلى مختلف البلدان لشرائها ثم لبيعها لاحقاً”.
ومشروع طريق التوابل الجديد الذي اعلن عنه كممرات عبور خضراء هذا هو مشروع ضخم جداً في مواجهة ما يطلق عليه “مبادرة الحزام والطريق” الذي مخطط له بأن يربط الصين بالعالم. والحزام والطريق هو الأخر مبادرة صينية تحاكي طريق الحريرالتاريخي المزدهر، وهو المصطلح الذي أطلقه الألماني ريتشهوفن في القرن التاسع عشر على تلك المجموعة من الطرق المترابطة وكانت تسلكها القوافل والسفن وتمرّ عبر جنوب آسيا من تشآن الصينيه الى أنطاكية في تركيا بالإضافة إلى مواقع أخرى. كما أن للدول المجاورة للصين مثل كوريا واليابان مساهمة فيه وتأثرت به.
والحزام والطريق الجديد مخطط له بأن يربط الصين بالعالم ليكون أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية كونه يرتكز على مشاريع النقل والمواصلات البرية والبحرية، لتتجاوز به المضائق البحرية التي تتحكم فيها الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ذلك إنشاء شبكة من السكك الحديدية، وخطوط أنابيب الطاقة، وطرق سريعة لربط المدن الصينية بالوجهات التجارية في آسيا وروسيا وأوروبا من دون الأعتماد على مضيق ملقا الذي تتحكم فيه الدول الأخرى.
ولأهمية تلك المبادرة فلقد تم في عام 2017 م دمج هذه المبادرة في دستور الصين الشعبية لإعتبارها: هو منصوص عليه في الدستور الصيني «معززة للاتصال الإقليمي واحتضان مستقبل أكثر إشراقًا» وحددت الصين عام 2049م، (وهي السنة التي تتزامن مع الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية) كتاريخ مستهدف للانتهاء للمشروع.
وطريق البهارات الجديد الذي أطلق عليه في قمة العشرين (الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا ) مخطط له بأنه سيسهم في تطوير وتأهيل البني التحتية التي تشمل السكك الحديدية وربط الموانئ، وزيادة مرور السلع والخدمات وتعزيز التبادل التجاري بين الأطراف المعنية، ومد خطوط الأنابيب لتصدير واستيراد الكهرباء والهيدروجين لتعزيز أمن إمدادات الطاقة العالمي، بالإضافة إلى كابلات لنقل البيانات من خلال شبكة عابرة للحدود ذات كفاءة وموثوقية عالية حيث يتألف طريق البهارات الجديد (الممر الأقتصادي) من ممرين منفصلين هما ممر شرقي وممر شمالي.
” الممر الشرقي ” فهو الذي سيربط الهند كمركز شرقي ويستقبل ويصدرا لدول مثل فيتنام وتايلاند وميانمار (إذا سمح المجلس العسكري في ميانمار بميناء مخصص لهذا المشروع أو خرج من نفوذ الصين) وبنغلاديش والتي لها 6 نقاط خروج للسكك الحديدية إلى الهند لهذا الممر الممتد، ويمكن استخدامها جميعًا في ذلك.
و«الممر الشمالي» وهو الذي يربط الخليج بأوروبا، ويتصل من مومباي بالهند بحرا إلى ميناء دبي بالإمارات، ومن امارة دبى الى منطقة الغويفات الإماراتية بالسكك الحديدية ثم الى المملكة كرابط الوصل والأهم في هذا المشروع الى ان يصل إلى جنوب الأردن، ثم الى مدينة المنطقة الساحلية للبحر الأبيض المتوسط، في الاراضي الفلسطينية المحتلة، ومنها بحراً إلى السواحل الجنوبية لأوروبا وتحديدا ميناء بيرايوس اليوناني وفرنسا وإيطاليا، ومنهما إلى دول وسط أوروبا وشمالها وغربها عن طريق السكك الحديدية، مسهلاً وميسراً بذلك عملية النقل عبر الكابلات لطاقة الكهربائية وكذلك الألياف البصرية، والبترولية الغازية عبر خطوط انابيب وكذلك خطوط للسكك الحديدية مستهدفاً بذلك تعزيز امن الطاقة عالمياً وميسراً نقل البضائع وفتح اسواق العالم إضافة الى تنمية الاقتصاد الرقمي عبر النقل والربط الرقمي للبيانات.
وهنا نرى أن لدى طريق التوابل الهندي الجديد أو (الممر الاقتصادي) لديه القدرة على تجاوز مبادرة الحزام والطريق الصيني في المستقبل باعتباره العمود الفقري الجديد للتجارة العالمية القائمة على سلاسل التوريد العالمية ذات التقنية الجديده، بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا متجاوزة المناطق المضطربة في الدول الآسيوية الأخرى كباكستان وأفغانستان. ولاشك بأن تداعيات الحرب في أوكرانيا دفعت الولايات المتحدة وأوروبا الى مواجهة تحركات الصين وروسيا، لمنعهما من تعزيز قوتهم الاقتصادية في العالم.
ومن المرجح أن يكون للهند مزايا استراتيجية واقتصادية كبيرة من هذا المشروع عندما يتم تشغيله وربما تكون المستفيدة بشكل كبير نظراً لأنه سيضعها في قلب التدفقات التجارية من جنوب شرق آسيا ومنها إلى الشرق الأوسط وأوروبا، مما يمنحها ميزة كمركز عالمي لتأمين سلاسل التوريد، وخلق فرص العمل، وتحسين تيسير التجارة وإمكانية الوصول إليها.
وبدعم ومساندة الولايات المتحدة الامريكيه وأوربا التكنولوجيه، والتمويل الخليجي فمن المؤكد ان مشروع الممر الأخضر سيكون منافساً للحزام والطريق الصيني خصوصاً وأن العديد من البلدان المشاركة في مشروع الحزام والطريق بدأ يحجم عن المشاركة فيه بسبب مخاوف من أن القروض الصينية الرخيصة لتشييد هذا الطريق بدأت تتصاعد وأن تلك الدول في نهاية المطاف ستكون عاجزة عن سداد تلك القروض.
كما أن إعلان المبادرة الممر الأخضر فيها منافسة لدولة عظمى كالصين وروسيا وفيه إقصاء لدول اقليمية كبرى كإيران وتركيا، فهناك ممر آخر وبالمناسبة الغريبة تقوده الهند في المنطقة يهدف لنقل البضائع بين الجنوب من الهند إلى الشمال لروسيا وكذلك إلى شمال وغرب أوروبا وهو ممر النقل الدولي شمال جنوب وذلك بموجب الاتفاقية بين تلك البلدان عام 2000م وفي السنوات التالية منذ توقيع الاتفاقية في ذلك العام، انضمت 10 دول أخرى، بما في ذلك أذربيجان وتركيا، إلى هذا المشروع وبالتوازي مع مبادرة الحزام والطريق الصينية.
والممر لم يعمل بكامل طاقته الى الآن ولكنه يحظى بمكانة مهمة في العلاقات الثنائية والتجارية بين روسيا وإيران، ولكن ذلك البلدان يخضعان للعقوبات الغربية. كما أن تركيا والتي تسعى بأن تكون نقطة العبور بين اسيا واوربا تعتبر ان الهند تحاول أخذ دورها وهي بذلك يمثل بالنسبة لتركيا كما بينت التقارير مواجهة لنفوذ الهند المتصاعد في المنطقة في ضوء المساعي الغربية في تقليل الاعتماد على الإمدادات من بكين والعقوبات الغربية الصارمة على ايران وروسيا.
ووفقا لتصريح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان: “إن ممرات الطاقة والنقل لا يمكن أن تكون فعالة ومستدامة في المنطقة دون مشاركة تركيا وأن تركيا منفتحة على أي خطة لتشجع التعاون في نقطة تلتقي فيها ثلاث قارات. ومما لاشك فيه فسيكون هناك محاولات تركية لتتعامل بتوازن مع جميع القوى للاستفادة من المشروعين معا كونها عضو في الناتو ولا تريد أن يكون تعاملها فقط مع الصين على حساب الولايات المتحدة، أو العكس.
ولكن تبقى نقطة الضعف التركية هي الحاجز البري الأرميني بينها وبين جمهوريات وسط اسيا، وربما يدفع تركيا في تسريع الإجراءات ولو العسكرية لاتحاد اذربيجان المنفصلة عن نخجوان الأذربيجانية من خلال الفاصل الأرميني وذلك عبر ممر موازياً وفاصلاً للحدود الايرانية الأرمينية والذي سيمكن تركيا بالأتصال البري لجمهوريات وسط اسيا والصين مع تركيا ولو بالقوة العسكرية، وفي ضؤ ممانعة ايرانية ستجد تركيا نفسها ربما في صراع عسكري مع ايران وبحد اقل مع روسيا، ولكن على ضؤ الخطوات التي تتخذها الهند بمباركة امريكية اوربية لانتزاع الدور التركي كنقطة عبور اسيوية اوربية، فربما نرى في الأيام القليلة القادمة إشتداد النزاع بين ايران وارمينيا من جهة وبين تركيا واذربيجان من جهة اخرى حيث أن تركيا بالتأكيد ومن وراؤها الصين التي لم تنتهي من بناء الحزام والطريق وكذلك الأتحاد الروسي، لن يقفوا مكتوفي الأيدي امام طموحات الهند لانتزاع دور تركيا المركزي التاريخي كدولة عبور مائية وبرية وفيه اجهاض لمشروع الحزام والطريق.
والمملكة بين هذا الشد والجذب لديها من المميزات العظيمة، وأثبتت انها الرقم الصعب في هذه المعادلة، اي في مواجهة ما تطرحه الصين أو تركيا من ربط اسيا بأوربا من خلال مبادرة الحزام والطريق الذي يهدف إلى زيادة تجارة بكين مع آسيا الوسطى وأوروبا وإفريقيا أو الجنوبي الشمالي الهندي الروسي متخطيتاً بذلك الجزيرة العربية. فموقع المملكة بين الثلاث قارات لا يمكن ان يستثنى من تلك الممرات الدولية.
والمملكة بهذه المبادرة تعلن للملأ بأن دورها في الجغرافيا السياسية وثرواتها الطبيعية الاقتصادية الكبيرة ومحاذاتها لإفريقيا المكتنزة الثروات الطبيعية لايمكن ان يستغنى عنها او تستثنى من تلك الطرق القارية ولايمكن أن تكون تابعة لأي من القوى الأقليمية. فهي قوة اقليمية في تعاظم، ودورها سيكون الأعظم في حلقة الوصل القارية والتي لايمكن مجارات اهميتها الجغرافية بين دول العالم.
والممر الاقتصادي سيكون مركزه المملكة التي تم استثناؤها بخيارها او غير ذلك في الحزام والطريق وكذلك في خط الجنوب الشمال السالف ذكرهما، إن أهمية الممر الأخضر هذا للمملكة سيكون الحاضنة للمشاريع الاقتصادية الكبرى في المملكة وستكون المملكة مركزا لجذب الاستثمارات العالمية في مشروعات الطاقة المتجددة والهيدروجين النظيف، وستتمكن السعودية بربط المشروع بمدينة “نيوم” والتي يخطط لها أن تكون المدينة الخضراء، والأستفادة من البنية التحتية العملاقة في السعودية في نقل الغاز والنفط والهيدروجين عبر شبكات أنابيب الغاز والبترول بين الخليج والبحر الاحمر مثل خط أنابيب النفط الخام بين شرق المملكة وغربها والذي يمتد من حقل بقيق في المنطقة الشرقية إلى مدينة ينبع على البحر الأحمر بطوول 746 ميل، كما ان خط التابلاين التاريخي الذي تم إنشاؤه في عام 1948 بطول 1,664 كلم، يربط الخليج العربي حتى البحر المتوسط، وهو معبر نقل النفط من السعودية إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية من الممكن احياؤه.
كما أن خط الناقل للنفط العراقي عبر المملكة إلى البحر الأحمر بدءا من منابع النفط العراقية وصولا إلى موانئ ينبع السعودية على البحر الأحمر، والخزانات العملاقة على الميناء من الممكن تأهيله واعادته للتشغيل، ونرى هنا بأن الممر الاقتصادي الضخم سيكون رافداً جديدا للمدخولات الوطنية في عصر التقنية والطاقة المتجددة، والاستفادة من عوائده التنموية لرفع مستوى المواطنين، وسيكون عملاً مهماً في دمج مصالح دول القارات الثلاث وربط بعضها ببعض نحو مزيد من الاعتمادية المتبادلة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال