الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في عالم الحوكمة تنشأ معظم المخاطر الإدارية والإشكاليات الأخلاقية من تعارض المصالح بين الشركة بشَخصِيَّتِهَا وذمَّتِهَا ومَصَالِحِهَا التشغيلية والاستثمارية المُستَقِلَّة عن الشركاء، وبين إدارة هذه الشركة من أشخاصٍ لهم شَخصِيَّتُهُم واستثمَارَاتَهِم الخاصَّة التي كثيراً ما تَتَعَارض مع مصلحة الشركة.
حيث يُعتَبَرُ تعارض المصالح هذا من أكثر أنواع المخاطر تأثيراً على جودة الحوكمة بالشركة؛ لأنَّه ببساطةٍ قد يؤدِّي إلى قيادة الشركة من إدارَتِهَا نحو تحقيق مَصَالِحِهِم الشخصية، وضَربِ مصلحة الشركة والمساهمين عُرضَ الحائط.
وبالنسبة لهيئة السوق المالية السعودية، فقد نَظَرَت بحذرٍ شديدٍ تِجَاهَ تعارض المصالح بالنسبة للشركات المدرَجة في سوق “تداول”؛ حيث ألزَمَت الشركات بصياغةٍ سياسةٍ لتعارض المصالح، وألزَمَتْ أعضاء مجلس الإدارة بتجنُّبِ تعارض المصالح أو على الأقل الإفصاح عن مَصَالِحِهِم المُتَعَارِضَة مع مصلحة الشركة إذا نشأتْ (مواد 41 + 42 +43 لائحة الحوكمة).
كأن يقومَ عضو مجلس إدارة شركة للنقل بتأسيس شركةٍ لصيانة الشاحنات، فيكون من مَصلَحَتِهِ صيانة شاحنات الشركة التي يُدِيرُهَا من خلال وُرَشِ الصيانة التي يَمتَلِكُهَا، لكن قد يَستَغِلَّ العضو مَوقِعَهُ الإداري في الشركتَيْن؛ فتَقُومُ شركة الصيانة التي يَمتَلِكُهَا بفَرضِ أجور صيانةٍ أو أسعارٍ لقِطَعِ الغِيَارِ بشكلٍ أعلى من السوق؛ وهنا ينشأُ تعارض المصالح.
لكن هذا لا يَعنِي تحوُّل وَاقِعَةِ “تعارض المصالح” إلى واقعةٍ مَحظُورَةٍ تؤدِّي إلى مُسَاءَلَةٍ مدنيةٍ وتأديبيةٍ، ولا واقعةٍ إجراميةٍ تؤدِّي إلى مساءلةٍ جزائيةٍ، بل هي واقعةٌ تُمثِّلُ وَضعَاً غيرَ مُستَحَبَّاً في إدارة الشركة، وقد تكون قرينةً على استغلال الشركة وأموالِهَا في حال عدم الإفصاح عن تعارض المصالح.
إلا أنَّ خطورة تعارض المصالح ليست على نفس الدرجة؛ حيث يمكن أن تنشأ عن احتمالِ وجودِ مشروعٍ لعضو مجلس إدارة الشركة يكون فيه العضو منافساً فعلياً للشركة التي يديرها في السوق.
هل يُعتَبَر عضو مجلس الإدارة المُنَافِسِ للشركة التي يُدِيرُهَا؛ هو مديرٌ خائنٌ لثقة الشركة دائماً؟
هذا الوضع يُسمَّى بمنافسة الشركة من إدارَتِهَا، وهو أمرٌ خطيرٌ بالنسبة لحوكمة الشركات؛ لأنَّ عضو مجلس الإدارة المُنَافِسِ لشَرِكَتِهِ لن يَقُومَ باستِغلَالِهَا فقط، بل قد يقومُ بتَدمِيرِهَا ودَفعِهَا نحو الإفلاس؛ لأنَّها تُمثِّلُ مُنَافِسَاً لأعمَالِهِ ومَصَالِحِهِ الشخصية.
هنا يقول الواقع بوجود احتِمَالَيْن:
عضو مجلس إدارة يُنَافِسُ الشركة التي يُدِيرُهَا دون أن يَضُرَّ بمصلحتها، فيقوم المدير بالإفصاح عن مَشرُوعِهِ المُنَافِسِ للشركة، وهكذا يُصبِحُ كأيِّ نشاطٍ اقتصاديٍّ يُنَافِسُ الشركة بشرفٍ.
عضو مجلس إدارة يُنَافِسُ الشركة التي يُدِيرُهَا ويَطعَنُهَا بِظَهرِهَا، فلا يُفصِحُ عن مَشرُوعِهِ المُنَافِس للشركة، ثم يُحَاوِلُ استِصدَارَ قراراتٍ تَخدِمُ مصلحة شَرِكَتِهِ الخاصَّة بما يَضُرُّ بالشركة التي يديرها ويُنَافِسُهَا بنفس الوقت؛ عندها يمكن القول بأنَّ هذا العضو هو مديرٌ خائنٌ للشركة ويستحقُّ المساءلة والعقوبة.
موقف هيئة السوق المالية من فكرة:
“المدير الخائن”
مبدئياً، عَالَجَت هيئة السوق المالية موضوع تعارض المصالح الأعلى بين عضو مجلس الإدارة والشركة بشكلٍ منهجيٍّ؛ حيث وضَّحَت ما هي الحالات التي تنشأ فيها منافسة الشركة أولاً، ثم وَضَعَت ضوابطاً لهذه المنافسة ثانياً.
أولاً: ماهية المنافسة بين عضو مجلس الإدارة والشركة التي يُدِيرُهَا
حَدَّدَت الهيئة ماهية هذه المنافسة في حدودِ مَعنَيَيْنِ (مادة 45، لائحة الحوكمة):
(1) منافسة الشركة بِنَشَاطِهَا الأساسيِّ؛ كأن يُؤَسِّسُ رئيس مجلس إدارة شركة ألبانٍ، شركةَ ألبانٍ جديدةٍ تُنَافِسُ الشركة التي يُدِيرُهَا بشكلٍ مباشرٍ وبكلِّ وُضوحٍ في نَفسِ سُوقِهَا، وعلى نفس زَبَائِنَهَا، وضِمنَ نَفسِ مُنتَجَاتِهَا.
(2) منافسة الشركة في أحد فروع نَشَاطِهَا الذي تُزَاوِلُهُ؛ كأن يقومَ عضو مجلس إدارة شركةٍ قابضةٍ بإنشاء شركة استيراد أدواتٍ كهربائيةٍ منزليةٍ، فيما تكون الشركة القابضة مُستَحوِذَةً على شركة كهربائياتٍ محليةٍ؛ فهنا ينشأ التنافُسُ بين شركة العضو لاستيراد الأجهزة الكهربائية وبين أحد فروع نشاط الشركة القابضة؛ وهو الصناعة المحلية لذات الأجهزة في السوق.
وهنا تَجدُرُ الإشارة إلى أنَّ المنافسة التي تنشأ بين عضو مجلس الإدارة والشركة التي يُدِيرُهَا لا تَستَوجِبُ أن يكون المشروع المُنافِسُ المُرتَبِطُ بالعضو مَمْلُوكَاً له، بل قد يكون هذا العضو:
مَالِكَاً لنسبةٍ مُؤَثِّرةٍ في رأس مال الشركة المنافسة.
أو مُدِيرَاً للشركة المنافسة، فيُصبِحُ مديراً لشركتَيْن متنافِسَتَيْن.
أو وكيلاً تجارياً لشركة منافسة للشركة التي يديرها، سواءً أكانت هذه الوكالة ظاهرةً أم مُستَتِرَةً خَلفَ شخصٍ آخر؛ كأن يقوم عضو مجلس إدارة شركة لصناعة الساعات المحلية بإبرام وكالةٍ لاستيراد ساعاتٍ أجنبيةٍ مُنَافِسَةٍ لساعات الشركة التي يُدِيرُهَا، ليس باسمه لكن باسم شخصٍ مُسَخَّرٍ منه كأن يكون أحد أقرِبَائِهِ أو أصدِقَائِهِ أو المُستَخدَمِينَ لدَيهِ.
ثانياً: ضوابط المنافسة بين عضو مجلس الإدارة والشركة التي يُدِيرُهَا
نظراً للموقف الحسَّاس الذي ينشأ بمُجرَّدِ قيام حالة المنافسة بين عضو مجلس الإدارة الذي وَثَقَت الشركة فيه لإدارة نَشَاطِهَا ورأس مَالِهَا، وبين المشاريع الخاصَّة بهذا العضو والتي تُنَافِسُ الشركة؛ فيجب في هذه الحالة احترام الضوابط التالية (مادة 44 لائحة الحوكمة):
إبلاغ مجلس إدارة الشركة بالأعمال التي يَرغَبُ عضو مجلس الإدارة بمُمَارَسَتِهَا في محضر جلسة المجلس.
منع عضو مجلس الإدارة من الاشتراك بالتصويت على القرار بالسماح له أو مَنعِهِ من ممارسة العمل المنافس، سواءً في مجلس الإدارة أو لجانه أو الجمعية العامة للشركة.
إخطار مجلس الإدارة للجمعية العامة بوَاقِعَةِ منافسة عضو مجلس الإدارة للشركة.
حصول عضو مجلس الإدارة على ترخيصٍ من الجمعية العامة للشركة أو من المجلس ذاته إذا كان مُفَوَّضَاً بإصدار مثل هكذا ترخيصٍ.
وفي الواقع، إذا أردنا الموازنة بين المخاطر الجسيمة التي يُشَكِّلُهَا تعارض المصالح الذي يَصِلُ إلى حدود المنافسة بين عضو مجلس الإدارة والشركة التي يُدِيرُهَا، فإنَّ مُجرَّدَ قبولِ هذا العضو بالدخول في حالة “المنافسة” تَدعُو للحرص أكثر من نَوَايَاهُ ونُفُوذَهُ المُمْتَدِّ بين حدود شَرِكَتَيْنِ مُتَنَافِسَتَيْنِ.
فالوصول إلى واقعة منافسة الشركة بحدِّ ذَاتِهِ يجب أن يُشكِّلَ مخالفةً لقواعد الحوكمة، وبدلاً من الإفصاح عن واقعة المنافسة هذه، كان يَجدُرُ بعضو مجلس الإدارة هذا التنحي عن عضوية المجلس.
فحتى وإنْ أفصَحَ العضو عن حالة المنافسة، ثم حَصَلَ على ترخيصٍ بممارسة نشاطَيْنِ مُتَنَافِسَينِ ومُتَعَارِضَينِ؛ فهذا إتاحةٌ لوضعيةٍ مُتَنَاقِضَةٍ قد تَضَعُ عضو مجلس الإدارة في إحراجٍ كبيرٍ بين مصالح الشركتَيْن إذا كان شخصاً ذو ضَمِيرٍ وذِمَّةٍ.
وهكذا، يبدو أنَّ الحل الأفضل هو حَظرُ وصول تعارض المصالح إلى وضعية منافسة الشركة من أعضاء مجلس إدارتها أو اللجان المُنبَثِقَةِ عنه؛ حظراً يؤدِّي انتِهَاكُهُ إلى مسؤوليةٍ تأديبيةٍ أمام الشركة ومدنيةٍ لتعويض الأضرار التي يكون قد تسبَّبت بها وضعية المنافسة هذه، وإلى مسؤوليةٍ جزائيةٍ إذا شَكَّلَت هذه المنافسة مَحَلاًّ لأحد الأفعال الإجرامية المنصوص عليها في باب جرائم الشركات أو أسواق المال.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال