الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
حين صدر قرار مجلس الوزراء رقم: (257) عام 1435-2014 بإنشاء أول مركز تحكيم مؤسسي، كان ذلك نقلة نوعية للوسط القانوني، فكان كالشمس في بيان منزلة التحكيم، حتى لامس شُعاعها كثيرًا من الناس التي تُقلل من مكانة التحكيم؛ فبان لهم تشابه مسالكها وتشاكل مذاهبها مع القضاء، مما دعى كثيرًا من المحكمين للانضمام الى هذه المراكز المؤسسية، وبسبب جِدَّة هذه المراكز تَجِدُ تفاوتًا في سياسة موضوع الإفصاح عن أسماء المحكمين -وما يلحقهم- لدى هذه المراكز، فسعيتُ الى البحث في مآلات هذه السياسات، وأيها أقرب للرجوح في ميزان العدالة.
لذلك هذا المقال يُعتبر من المحاولات الأوليّة للسير في هذا المضمار ولتنبيه المهتمين لأهمية الموضوع وضَرورة الحفر في أرضه ومنعرجاته أداءً للأمانة العلمية. سأرصد في هذا المقال عمل أبرز مراكز التحكيم العربية والمراكز الكبرى الأجنبية من ناحية الإفصاح عن أسماء المحكمين من عَدمها، ومن ثم سأحاول عرض رُؤية تحليلية ومناقشة للأسباب والدوافع، وختامًا سأدعُ للقارئ الكريم كامل الصورة ليقرر أيهما أصح في الوصول الى حضن العدالة.
باستقراء مجموعة من مراكز التحكيم العربية؛ نجد أن السائد في عمل هذه المراكز هو سياسة عدم الإفصاح عن أسماء المحكمين المعتمدين لديها كما هو الحال في فالمركز السعودي للتحكيم التجاري ومركز غرفة الشرقية للتحكيم ومركز الشارقة للتحكيم التجاري الدولي ومركز دبي للتحكيم الدولي ومركز أبو ظبي للتوفيق والتحكيم التجاري ومركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي ومركز الأحساء للتحكيم التجاري ومركز التحكيم الخليجي أما المراكز التي تفصح عن قائمة المحكمين لديها فهي قليلة كمركزي مكة وعمان للتحكيم.
ويظهر من هذا الاستقراء ان إخفاء أسماء المحكمين هو الغالب الأعم لدى المراكز العربية، على عكس كبرى مراكز التحكيم الأجنبية التي تفصح كمركز هونج كونج للتحكيم الدولي ومركز التحكيم الدولي بسنغافورة ورابطة التحكيم السويسرية ومركز التحكيم الدولي بفيينا، وبالنسبة لغرفة التجارة الدولية ICC فلا يوجد لديها قائمة محكمين؛ ولكنها تُفصح عن القضايا بمحكميها، أما محكمة لندن للتحكيم الدولي ومركز فض المنازعات الدولية بنيويورك لا يفصحون عن الأسماء.
في بادئ ذي بدء ينبغي التنويه إلى أنه لا توجد مخالفة قانونية فيما يتعلق بالإفصاح عن أسماء المحكمين من عدمه، إنما هي مجرد اختلاف سياسات بين هذه المراكز، وسأسعى إلى تحليل أسباب هذا الاختلاف. من المصالح الظاهرة وراء إفصاح المراكز عن أسماء محكميها؛ أنه يُعد عامل جذب للمحكمين -من ناحية إعلان أسمائهم كمحكمين معتمدين لدى المركز- وكذلك للمحتكمين المحتَمَلين -على اعتبار قوة وشهرة أسماء المحكمين-، فعامل الجَذب للطرفين يساعد في حراك عجلة التحكيم، وكذلك الإعلان عن الأسماء يٌضفي شفافية ونزاهة لدى المركز وطريقة عمله، وقد يعطي هذا النهج مزيد ثقة وطمأنينة لدى العامة، ولكن في المقابل قد يرجع تحفظ بعض المراكز عن الإفصاح إلى عدم وجود حاجة مقنعة لذلك، بل على العكس؛ قد يفتح الإفصاح بابًا يُساء استخدامه، من ذلك أن هناك احتمالية واردة لتَخطي المركز، والوصول مباشرة الى معلومات المحكمين.
وقد يتبادر الى ذِهن القارئ أن هذا السبب غير منطقي، إلا أن المتأمل لواقع البيئة التحكيمية المحيطة؛ يلحظ وجود مثل هذه المحاولات مما دعى بعض المراكز لوضع خدمة خاصة بمُسمى: (خدمة تعيين)، فأحد غاياتها محاولة تفادي قفز العملاء المحتملين الى المحكمين مباشرة عن طريق الاستفادة من المعلومات المقدمة بشكل مجاني من المركز.
ويَظهر أن أكثر المراكز العربية تَميل الى عدم الإفصاح خِلاف الأجنبية، والحقيقة أنه يمكن عَزو سبب غَلَبَة التحفظ عن ذكر الأسماء في المراكز العربية على عكس الأجنبية الى وجود بيئة ناضجة في قضايا التحكيم الدولي والتي تكثر في المراكز الأجنبية على عكس أخواتها العربية، ولمزيد إيضاح أقول: أن الصحيح -على فرض من يقول ذلك- هو الإفصاح من باب الشفافية، ولكن قد ينقلب الصحيحُ خاطأ إذا وضع في المكان والزمان الذي لا يناسبه.
ألا تَرى أن العلماءَ نهو عن بيع العنب لمن يعصره خمرا، وبيع السلاح لمن يستعمله في المعاصي -مع الفارق-، فكما تَعلم أن بيع العنب جائز لا إشكال فيه، ولكن لوجوده عند من سيستعمله على خلاف ما وضع له؛ حَرُم، فكذلك يظهر للباحث المُنصف بأدنى تأمل أن البيئة العربية لم تصل -حتى الآن- الى مرحلة الوعي بماجريات التحكيم، فأخذُ الأنموذج الغربي للتحكيم ومحاولة تطبيقه في مَناخ مختلف عنه، سَيُفسِد من حيثُ أُريد الإصلاح، ويَضُر من حيث أُريد النفع، فعدم وصول الشفافية الى أقصى مراحِلها في البيئة العربية قد يكون خلفهُ مصلحة معتبرة حاليًا، ولا يُظَن أن هذه محاولة في التقليل من الفَهم العربي للتحكيم، ولكن الواقع يُجبرنا -مع الأسف- أن نقول أن هنالك قلةُ معرفةٍ وضعفٌ في التعامل مع بَدَهِيات مبادئ التحكيم في المحيط العربي بداية من الأطراف ووصولًا الى المتخصصين بالقانون، ولكن -إحقاقًا للحق- نشهد مؤخرًا تطورًا ملحوظًا في الوعي بمسألة التحكيم في المنطقة العربية.
ومراكز التحكيم المؤسسي لها نصيب الأسد في نشر المعرفة بمكانة التحكيم، وفي ظل غياب تفسير واضح لسياسة الإفصاح عن أسماء المحكمين من عدمها، تبقى هذه محاولة لقراءة الأسباب، ولهذا أرى أن بحث مثل هذه المسائل وخوض غِمار الدَهاليز المظلمة في الإشكاليات المتعلقة بالتحكيم، يُساهم في تنمية الوسط القانوني ويَسعى لإشعال نور البحث والمعرفة لديه، فمهما كان الرأي في المسألة، يجب أن تكون صدورنا مُتسعة للخِلاف، وأفقنا رحبتًا للرأي الأخر.
بالختام، لا يوجد جواب حاسم ينهي المسألة، بل يجب تقييم السياق والأهداف والمخاوف المحتملة والتوجه نحو أفضل نهج يرتقي بنا الى التحليق في فضاء العدالة، وأشيد بكل الباحثين للسعي في هذا الميدان ومحاولة تطويره بالأبحاث والمقالات العلمية النافعة، وهذا آخر المطاف والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وأتباعه.. والله من وراء القصد.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال