الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
اني، سنرى العديد من الاختلافات التي تصل إلى حد التعاكس بين الناس، ولا يمكن فرض نموذج سلوكي معين على خصوصيات الناس كلهم؛ فهذا يقيد حريتهم بالتصرف والتعبير.
فكيف يفرض التشريع سلوكا موحدا على شعب بأكمله إذا؟
في الواقع، يوجد دائما قواسم مشتركة بين أفراد الشعب الذي تحكمه دولة واحدة، يمكن تسميتها ب: “المنطلقات المحلية”، والتي تكون ناشئة عن ترسخ مبادئ دينية أو العادات الاجتماعية.
فمثلا، في البيئة الإسلامية يرفض المجتمع بصفة شبه مطلقة فكرة انتشار دور القمار، والسبب أنها تؤدي إلى هلاك المال وتشريع السرقة بطريق الاحتيال والغش، وتهدف إلى إفساد المجتمع ونشر ثقافة الربح السريع أو الخسارة الفاحشة بغير تعب ولا عمل.
فإذا، يمكن اعتبار رفض المجتمع الإسلامي لسلوك القمار بأنه منطلق محلي للتشريع؛ يظهر على شكل تشريعات تحظر دور القمار، وتبطل أية ديون ناشئة عن ألعاب القمار.
هكذا إذا، نشأت فكرة التشريع الذي يفرض إطارا سلوكيا محددا على مجتمع أو مجتمعات بأكملها، ليس بهدف تقييد حريتها، بل بهدف تقويم سلوكها في إطار المنطلقات السلوكية التي تجمعها.
وأهم صيغة تشريعية لهذه المنطلقات تكون على شكل دستور يتضمن أسمى القواعد المبادئ القانونية في الدولة.
أين موقع الشريعة من منطلقات التشريع؟
الشريعة بمفهومها الشخصي هي عقيدة يعتنقها الشخص ويؤمن بها ويلتزم بالسلوك الذي تحدده لهْ، في المجتمعات المسلمة ترتقي الشريعة من فكرة الدين والعقيدة الفردية الشخصية إلى فكرة التشريع الملزم بشكل موضوعي عام على جميع افراد المجتمع؛ فتتحول الشريعة إلى دستور تشريعي للمجتمع.
.
فمثلا، تنطلق الأنظمة في المملكة العربية السعودية من منطلق الشريعة الإسلامية التي يعتنقها شعب المملكة ويؤمن بها؛ فهذا يعني أن على أي شخص أجنبي يزور المملكة أن يحترم تشريعها الشرعي الإسلامي، وألا يخالف أية منطلقات أو قواعد شرعية.
فإذا كانت منطلقات التشريع واضحة من حيث أثرها، فما هو المظهر اللغوي والموضوعي لهذه المنطلقات؟
الصياغة التشريعية..
من الدستور إلى القانون
بعد استقرار المجتمع على منطلقات تشريعية محددة، سواء أكانت شرعية أم غيرها، يأتي دور الصياغة التشريعية للقواعد التفصيلية التي ستحكم الشعب.
وكلما كانت المنطلقات أوضح وأكثر بساطة، كلما كانت الصياغة أسهل وأكثر تناغما مع المنطلقات التشريعية، أما إذا كانت صياغة المنطلقات غامضة؛ فإن صياغة التشريع قد تتعارض مع المبادئ الأساسية، وهذا يؤدي إلى تناقض دائم وعدم واقعية في الصياغة التشريعية، وهو ما يظهر على شكل تخبطات وتعديلات كثيرة في القوانين.
يمثل الدستور كمنطلق تشريعي يشبه أساسات البناء للأنظمة المحلية، فإذا كانت هذه الأساسات واضحة وموحدة وملزمة، كان البناء مستقرا، أما إذا كانت الأساسات مرتبكة ومتهالكة ومتعارضة؛ فيصبح البناء آيلا للسقوط.
وهنا يثور التساؤل: ماذا يحكم نجاح الصياغة التشريعية بعد صياغة الدستور؟
الأثر التشريعي المنتظرْ من صياغة القواعد القانونية..
“الغاية التشريعية”
طالما أن القانون يصدر بمعنى محدد؛ فهو يستهدف تحقيق غاية محددة أيضا، أي أن صياغة القانون ليست أدبية أو فنية أو خيالية تستهدف جمال العبارة، بل صياغة رصينة وجافة وواقعية وجدية تستهدف تحقيق أثر محدد في البيئة التي يحكمها التشريع؛ هذا الأثر هو الغاية التشريعية.
فمثلا، إذا راجعنا نظام المعاملات المدنية، فهو عبارة عن مجموعة قواعد تمت صياغتها حتى تحكم تصرفات الأفراد والتزاماتهم المالية؛ فهي صياغة واقعية ذات معنى، وتنقسم الغايات التشريعية في هذا النظام إلى ما يلي:
حماية النظام العام من انتشار معاملات تخالف قيم المجتمع ومبادئه.
حماية توازن السوق المالي، والذي يعتبر جزءا من الاقتصاد، ومن واجب المشرع فرْض الاستقرار والتوازن فيه من خلال حفظ الحقوق.
حماية حقوق الدائن من الضياع بسبب مماطلة المدين أو عسره عن سداد مبلغ الدين.
بالمحصلة، نستطيع القول بأنه إذا كان التشريع هو العنصر الأساس في نجاح أية عملية تنمية، فإن اختيار منطلقات هذا التشريع هو الأمر الأكثر جوهرية في تحديد هوية التشريع ونجاحه؛ كما أن جودة الصياغة التشريعية وحسن دلالتها على الغايات المستهدفة من التشريع؛ هي المعيار التطبيقي لنجاح لعملية التشريعية بأكْملها.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال