الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
إن معايير قياس جودة التشريعات تنطلق من منابع فلسفية وأصول فكرية، وتختلف معايير قياس هذه الجودة من مدرسة تشريعية لأخرى لكن بالنسبة لأدوات نجاح منظومة التشريعات فيمكن تحديدها بشكل شبه مؤكد وفق منطلقات الفكر التشريعي، والأهداف المرجوة على شكل غايات تشريعية.
مثلا، التشريع الذي يهدف إلى تنظيم التعاملات العقارية، يمكن أن ينطلق من فكر الشكلية والتركيز على العقار؛ فينشأ ما يسمى السجل العقاري العيني (أي يكون لكل عقار وثيقة خاصة به، وعليها يتم تقييد البيانات والحقوق)، أو أن ينطلق من فكر الموضوعية والتركيز على العقود العقارية وليس العقارات ذاتها، فينشأ ما يسمى الشهر العقاري (أي لكل عقد على عقار سجل وبيانات تخص البائع والمشتري تقيد عليه الحقوق).
فإذا كنا نتحدث عن معيار الجودة في السجل العقاري العيني؛ فإذا استطاع السجل العيني تغطية العقارات في الدولة بوثائق محددة، وانضبطت التعاملات العقارية ضمن هذا السجل؛ فيكون التشريع العقاري قد نجح، أما عن معايير جودة نظام الشهر العقاري، فإذا استطاع إسباغ الصفة الرسمية على عقود البيوع العقارية المسجلة لديه بموثوقية، فيكون التشريع قد نجح.
تغيير الفكر التشريعي يعني تغييرا حتميا في أدوات النجاح ..
عندها تظهر الحاجة إلى التغيير في الفكر التشريعي، والتي تعتبر هي مهمة صعبة وعميقة الأثر، بحيث تأتي بعد هزات اجتماعية تؤدي إلى تغييرات في فلسفة التشريع لدى المنظم.
فيمكن أن يرى المجتمع بأن المنظم يحمي الاقتصاد المحلي، ويمنع تأثير الشركات الأجنبية ذات التنافسية العالية، لكن بالمقابل يكون معظم الناس قد أصبحوا تحت خط الفقر بسبب ضعف الاستثمار المحلي، وتضاؤل حجم الاقتصاد، وانعدام أية فرص استثمارية، الأمر الذي يؤدي بالمنظم إلى تغيير فكره التشريعي نحو الانفتاح على الاستثمار الأجنبي.
إن معايير الجودة ستتغير جذريا خلال عملية الانتقال الفكري والتشريعي هذه، ومعها ستتغير -بلا شك- أدوات النجاح التشريعي. فبدلا من أن يكون معيار نجاح الاقتصاد المنغلق المتحفظ هو مدى قدرته على التصدي لآثار رؤوس الأموال الأجنبية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الموارد المحلية؛ يصبح المعيار هو تحقيق أعلى استفادة من الموارد المحلية، وإتاحة الفرصة للاستثمار الأجنبي لتطوير البنى التحتية، وتنفيذ المشاريع الاستراتيجية، وزيادة تنافسية الاقتصاد.
وعليه، تتغير أدوات النجاح التشريعي بعد هذا الانتقال بالفكر التشريعي، ففي البداية تكون قوانين التخطيط والتنمية والبحث عن موارد الاكتفاء الذاتي هي أهم أدوات نجاح العملية التشريعية، يتلوها تشريعات الدعم الاجتماعي، والتوظيف بالقطاع الحكومي، والارتقاء بحقوق العمال على حساب المشاريع الخاصة.
أما بعد الانتقال نحو الاقتصاد المنفتح، فيكون من أهم أدوات النجاح التشريعي هو القدرة على صياغة قوانين استثمار أجنبي تحقق مصالح اقتصاد الدولة دون أن يؤثر ذلك على الجاذبية وحقوق المستثمرين، وكذلك تكون الدولة في هذه المرحلة الحساسة بحاجة إلى صياغة آلية وقواعد تحكم عملية الخصخصة، والتي لا بد من تنفيذها على بعض القطاعات التي فقدت قدرتها على الاستمرار بالفكر التشريعي القديم حتى يأتي القطاع الخاص بسيولة أكبر وطرق إدارية أحدث وعلاقات دولية أوسع بغرض تقديم حلول ابتكارية والنهوض بعملية التنمية الاستراتيجية، كما أن وجود قواعد تحمي الملكية الفكرية وتضمن حماية للعلامات التجارية العالمية بغرض القدوم إلى الدولة، والبدء بالاستثمار الآمن فيها.
بالمحصلة، نستطيع القول بأن التشريع يحتاج إلى منطلق فكري، ثم معايير جودة مرتبطة بهذا الفكر، وأخيرا إلى أدوات نجاح موضوعية تمثل مجموعة من القواعد ذات التوجه الذي يضمن تحقيق الغاية التشريعية كما يراها المشرع.
وهنا يجدر التأكيد على أن أي خلل في أي ركن من الأركان التشريعية السابقة قد يؤدي إلى فشل العملية التشريعية بأكملها؛ فالتشريع هو عملية هرمية متسلسلة تحتاج إلى دقة وتأن في بناء الفكر التشريعي، والغاية من القواعد، والهدف النهائي المحدد لكل قانون، وكيفية اختيار الأدوات القانونية المناسبة لنجاحه.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال